لجنة الحقيقة والمصالحة في شيلي
حـــاميــد زيـــــار
تعتبر شيلي من الدول التي سعت الى تحقيق العدالة الانتقالية من خلال الكشف عن الحقيقة لتحقيق المصالحة الوطنية، إذ دعا رئيس الدولة المنتخب أيلوين باتريسيو الذي أعقب حكم الديكتاتورية، وبمقتضى مرسوم رئاسي صدر في 25 أبريل 1990 الى تشكيل لجنة رسمية للتحقيق في الماضي الأليم الذي عانى منه شعب الشيلي إبان حكم بينوتشي، والكشف عن الحقيقة التي انتظرها الشعب خاصة الضحايا وأسرهم، على اعتبار أن معرفة الحقيقة تساهم في تحقيق المصالحة للوصول إلى تحقيق العدالة. وأطلق على هذه اللجنة اسم ” لجنة الحقيقة والمصالحة ” عهد لها أمر التحقيق في الفترة التاريخية الممتدة من 1973 الى 11 مارس سنة 1990، خاصة حالة الاختفاء والاعتداء خارج نطاق القانون والتعذيب والوفيات المرتبطة بهذه الانتهاكات والناتجة عن ممارسات ارتكبت بمبررات سياسية.
وتتكون لجنة الحقيقة والمصالحة حسب المادة الثالثة من مرسوم 335 الخاص بإنشاء هذه اللجنة من ثمانية أعضاء بانتماءات وتوجهات مختلفة، من الرئيس ” راؤول ريتيج جيسين ” الذي كانت له مسؤوليات دبلوماسية- سفير- في عهد حكم سلفادور أليندي ومحاميا وهو أكبرهم سنا، ومنهم من عانى النفي والاعتقال في عهد الحكم العسكري “خوسيه زالاكيت ضاهر” وهو حقوقي، كان أصغرهم سنا، ويعتبر اليوم من اشهر الخبراء في مجال العدالة الانتقالية في العالم، وآخرون تحملوا مسؤوليات مختلفة هم: خايمي كاستيو فيلاسكو، خوسيه لويس سييا إغانيا، مونيكا خيمينيز، لورا نوفوا فاسكيز، خوسيه زالاكيت ضاهر، يكاردو مارتن دياز، غونزالو فيال كوريا. وعلى مستوى الجنس نجد امرأتين في اللجنة هما “مونيكا خيمينيز” و ” لورا نوفوا فاسكيز” مقابل ستة رجال.
وقد أعطيت أوامر للجنة الحقيقة والمصالحة في التحقيق بخصوص حالات القتل التي تجاوز عددها الألفين قتيل في عهد الحكم العسكري، إضافة لحالات الاختفاء والمهجرين. وتم تحديد أهداف معينة تعمل عليها اللجنة والتي يمكن اختزالها في النقط التالية:
رصد قدر الإمكان الانتهاكات الخطيرة التي مست حقوق الانسان.
جمع كل الأدلة التي ستساعد على وضع قائمة بأسماء الضحايا ومصيرهم ومكان تواجدهم.
توصية بالتعويضات لعائلات الضحايا.
توصية باتخاذ التدابير القانونية والإدارية التي تسمح بعدم تكرار مثل هذه الانتهاكات في المستقبل.
كما أن المادة الرابعة من المرسوم المؤسس حددت المهام المسندة لها، حيث عملت على :
تلقي الأدلة المقدمة لها من الضحايا المزعومين، أو ممثليهم أو الأقارب خلال الفترة الزمنية المحددة لها.
جمع وتثمين المعلومات من منظمات حقوق الانسان الشيلية والدولية، حكومية أو غير حكومية، سواء بمبادراتها أو عند تلقيها طلب في نطاق اختصاصاتها.
القيام بأكبر قدر من التحقيق لأنه قد يحدد ما هو مناسب لإنجاز مهمتها بما في ذلك طلب التقارير والمستندات أو الأدلة من الحكومة والسلطات.
إعداد تقرير على أساس الأدلة التي تم جمعها كتعبير عن استنتاجات اللجنة في توافق مع صدق ضميرها وضمير أعضاء اللجنة.
تحل اللجنة تلقائيا من نفسها بعد تقديم تقريرها الى الرئيس الذي سيقوم بدوره بعرضه على الشعب، واعتماد القرارات والمبادرات التي سيعتبرها مناسبة، وبذلك تنتهي مهمة اللجنة.
لقد اشتغلت اللجنة لمدة تسعة أشهر وأصدرت تقريرها الذي أصبح مشهورا كأول تقرير عن على حالات الاختفاء القسري تصدره لجنة تحقيق وطنية، ورغم اعتباره شهادة رئيسية عن حجم الانتهاكات ووثيقة تاريخية، فان النتائج الأولية التي توصلت إليها ظلت موضوع تحفظ خاصة من جهة الضحايا وعائلاتهم، خاصة وأن السعي الدائم وراء محاكمة الجناة ظل يطبع التجربة الشيلية، الذي اعتبرته يقدم حقيقة جزئية ولا يرقى الى مستوى رغبتهم في معرفة ملابسات الانتهاكات بخصوص مبدأ تعويض الضحايا وأسرهم، وقد اقترحت لجنة الحقيقة والمصالحة ثلاثة أنواع للتعويضات ضمن التوصيات الصادرة عنها وهي:
تعويضات رمزية تستهدف رد الاعتبار.
تعويضات ذات طبيعة قانونية وادارية لحل القضايا المرتبطة بالوفاة (إرث، نيابة قانونية عن القاصرين أبناء الضحايا).
تعويضات المساعدة والتأهيل الاجتماعي والرعايتين الصحية والتعليمية.
كما أن اللجنة لم تقف عند هذا الحد بل واصلت أعمالها للتحقيق في الانتهاكات والعمل على تطوير معايير تعويض الضحايا، وهذا ما فرض إصدار قانون ثاني بموجبه تم إنشاء هيئة وطنية أطلق عليها اسم” المؤسسة الوطنية لجبر الضرر”، ركزت مهامها حسب قانون تشكيلها على ما يلي:
تنسيق وتفعيل التوصيات الصادرة عن اللجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة.
تحديد أماكن اختفاء الأشخاص المختطفين والذين لم يتم العثور على جثتهم.
التحقيق في حالات الأشخاص الذين لم تستطيع اللجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة القطع في أوضاعهم ومن ثم معالجتها.
فالتقرير الرسمي للجنة الحقيقة والمصالحة تمحور في عمله حول هدفين أساسيين هما الحقيقة أولا ثم المصالحة ثانيا، وعملها كان هو التوصل الى فهم شامل لحقيقة ماذا حدث في تلك الفترة، لأنه كان من الضروري القيام بذلك للكشف عن الحقيقة لتحقيق المصالحة بين الشيليين.
وقد توصلت اللجنة من خلال تقريرها العام المقدم الى السلطات الحكومية الى تحديد 2279 ضحية، مقسمة بين ضحايا حقوق الانسان 2115 ضحية و164 ضحية العنف السياسي، وتم تسجيل 641 حالة ضمن الحالات العالقة، و استبعاد 508 حالة لا تتناسب مع التفويض الذي من أجله أنشئت اللجنة. والشكل التالي يوضح لنا القرارات النهائية التي أقرتها اللجنة.
كما اعتبرت اللجنة أن العديد من حالات القتل يمكن تصنيفها في خانة الأعمال الإرهابية بسبب وضع متفجرات في أماكن عمومية، أو القيام بهجومات عشوائية على المواطنين. فطرق القتل كانت عديدة ومتنوعة، منها استخدام القوة غير المبررة للقتل، إساءة استخدام السلطة التي يمكن أن تؤدي الى الموت، التعذيب المؤدي الى القتل، كما أن هناك حالات أخرى من قبيل الهجمات على الحياة الخاصة للمواطنين .
كما سجلت عمليات قتل كثيرة بسبب دوافع سياسية أو باعتناق أفكار سياسية والذي استهدف قادة الأحزاب السياسية والنقابات وطلاب الجامعات والمدارس الثانوية ثم منظمات الأحياء.. وكل هؤلاء كانوا أعضاء في أحزاب سياسية أو متعاطفين مع سلفادور أليندي الذي كان يتبنى الأفكار الاشتراكية.
إن قراءة أولية للاحصاء الخاص بالضحايا حسب الانتماءات السياسية يظهر أن النظام الديكتاتوري لبينوتشي أستهدف غالبية الأحزاب السياسية، وهذا فيه رسالة موجهة للحياة المدنية السياسية تقول أن هناك قوة واحدة لا علو فوقها وهي المؤسسة العسكرية، كما يمكن تسجيل ملاحظة ثانية هي أن أكثر الأحزاب استهدافا هي تلك التي تحمل الأيديولوجية الاشتراكية، وهذا كان يشكل للديكتاتور تهديدا لنظامه في الوقت التي كانت أمريكا اللاتينية تعرف انتشارا للمد الاشتراكي في إطار الصراع الثنائي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وهو تحد كبير للولايات المتحدة الأمريكية داخل قلعتها. فالإحصائيات تشير الى أن أكبر عدد الضحايا تم تسجيلهم في ثلاث أحزاب هي الجزب الاشتراكي ب450 قتيلا، وحزب اليسار الثوري ب384 قتيلا، والحزب الشيوعي ب 353 قتيلا. وهناك عدد كبير من ضحايا القتل مجهولي الإنتماء السياسي.
أما الضحايا حسب الحالة العائلية فقد تم تسجيل 960 ضحية بدون زواج بنسبة مئوية ٪42.1، والمتزوجون 1172 ضحية بنسبة مئوية ٪ 51.5، والأرامل 12 ضحية بنسبة مئوية ٪0.5، وضحايا غير محددة هويتهم 135 بنسبة مئوية ٪5.9 .
وحسب السن فقد وقف التقرير على أن أكبر فئة عمرية تم استهدافها هي المتراوحة سنها بين 21 سنة و40 سنة بما مجموع 1356 ضحية بنسبة مئوية وصلت الى ٪67.4 ، وحتى الأطفال لم يسلموا من ديكتاتورية النظام العسكري حيث وصل عدد ضحاياهم الى 318 ضحية بنسبة مئوية وصلت الى ٪13.9، إضافة الى الشيوخ الدين فاق سنهم 75 سنة، وهناك حالات سجلت غير معروف سنها.
ومن حيث الضحايا حسب الجنسيات فقد سجلت اللجنة في تقريرها ما يقارب عشرون جنسية (20 جنسية) تم قتل ضحاياها فوق الأراضي الشيلية إبان حكم الديكتاتورية العسكرية، فاذا كانت الشيلي لوحدها سجلت 2228 حالة بما مجموعه ٪97.76، فالباقي موزع خاصة بين دول اسبانيا والأرجنتين والإكوادور والأورغواي وأمريكا الشمالية والبرازيل وبوليفيا وفنزويلا…
وحسب الجنس فتم تحديد الضحايا بصفة عامة في الذكور ب 2153 بنسبة مئوية ٪94.5 والإناث ب 126حالة بنسبة مئوية ٪5.5. أي أن مجموع عدد الضحايا كما أقرت بذلك لجنة الحقيقة والمصالحة هو 2279 ضحية، والشكل التالي يوضح لنا إحصائيات الضحايا حسب الجنس.
هذه كانت خلاصات لجنة الحقيقة والمصالحة حول ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقو ق الانسان بالشيلي في الفترة التي حددت لها من 11/09/1973 الى 11/03/1990 إبان الحكم العسكري المطلق، من أجل دراستها وإنجاز تقرير حولها، بهدف للكشف عن الحقيقة، على اعتبار أن الحقيقة تجلب قدرا من التطهر الروحي الإنساني للفرد وللمجتمع، وتشكل عنصر ردع وتصدي للانتهاكات، ويمكن ترجمة هذه الحقيقة من خلال عدة صيغ أهمها الإدلاء بالشهادات، والهدف منها رد الاعتبار الى الضحايا والمساهمة في تعزيز العدالة الانتقالية والعمل على توفير مرتكزات المصالحة الوطنية للانتقال الى مرحلة الدولة الديمقراطية بمؤسسات دستورية.
لكن فيما يخص حالات الاختفاء القسري، فالشيلي لم تعترف رسميا إلا ب 3179 حالة اختفاء قسري، ضمت إحصائيات “لجنة الحقيقة والمصالحة” وكذا إحصائيات “المؤسسة الوطنية للجبر والمصالحة”، هذه الأخيرة التي أقرت ب 123 حالة اختفاء قسري و 776حالة اعتبرتها إعدام خارج القانون. وفي شأن التعويض دعت الهيئة الوطنية للجبر والمصالحة الى إحداث معاش تعويض على شكل منحة شهرية تقدم لأقرباء الضحايا ( الزوجة، الأم، الأبناء دون الخامسة والعشرون من عمرهم او المعاقون).
وتعتبر الشيلي بجانب الأرجنتين من أنجح التجارب فيما يخص من نفذ برامج جبر الضرر انطلاقا من تدابير شاملة، فبجانب التعويض المالي تم التركيز على نظام الرعاية الصحية للناجين من جحيم التعذيب و أسرهم، حيث استطاعت التعويضات المقدمة بسخاء أن تحسن حياة الضحايا وتعالج البعض منهم من أثار تلك الانتهاكات المرتكبة في حقهم.
لقد استثمرت شيلي نحو 3.2 مليار دولار أمريكي في التعويضات وشملت ما يقارب 2253 ضحية من ضحايا الاختفاء القسري والقتل، و38.245 ضحية من ضحايا السجن السياسي والتعذيب وعدد كبير من ضحايا الفصل السياسي من الخدمة المدنية أو الشركات العامة.[31] فجبر الضرر هو إقرار بالمسؤولية وبالتالي يشكل أحد آليات العدالة الانتقالية التي تطمح الشيلي الى تحقيقها من خلال المصالحة بين الدولة والمجتمع.
ولتزكية مبدأ التعويضات أصدر الرئيس “أيلوين باتريسيو” قانون رقم19/123 حدد من خلاله المساعدات التي أقرتها مؤسسة التعويضات والمصالحة وقسمت على الوجه التالي:
40 % من الراتب (215 دولار) للأزواج.
30 % أي 161 دولار لوالدة الضحية أو للوالد في حالة غيابها.
15 % أي 80 دولارا لكل من أبناء الضحية حتى بلوغهم سن الخامسة والعشرين أو مدى الحياة إن كانوا معاقين.
15 % أي 80 دولارا لوالد أو والدة أي من أبناء الضحية في إطار الزواج العرفي حتى بلوغ الأبناء سن الخامسة والعشرين أو مدى الحياة إن كانوا معاقين.
لقد شكل التعويض الذي تم تطبيقه على ضوء التقرير قبولا ورضى من طرف مكونات المجتمع الشيلي، لكن هذا لوحده غير كافي لتحقيق العدالة الانتقالية بالبلد وتحقيق المصالحة الداخلية مادامت مجموعة من الملفات لازالت عالقة ولم تحسم فيها لجنة الحقيقة والمصالحة وبالتالي يجعل تقريرها محدودا.
*، باحث في القانون العام والعلوم السياسية وعضو المركز المغربي للعدالة الانتقالية