البرهان (مـا كنت رايق، وساكن في صفاء وتأمين)
محمد عبدالماجد
في قصص القرآن الكريم رفض الشيطان السجود لآدم وقال : (أنا خير منه). وفرعون قال : (أنا ربكم الأعلى). وقارون قال (إنما أوتيته علي علم عندي). والنمرود قال (أنا أحيي وأميت). وصاحب الجنتين قال (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا). في كل هذه القصص شعور بالقوة وكبرياء لم يكن في محله، ومُلك أو مال زائل. ولكن هل يستدبرون من ذلك أو يفقهون؟
إبان أيام الاعتصام في محيط القيادة، كانت الأمة السودانية تبحث عن فتى أحلامها (العسكري) الذي يمكن أن تضع فيه الثقة. ويمكن أن يكون همزة الوصل بين الجيش والشعب. كانت الأمة تبحث عن الفارس الذي يأتي للميدان، وهو يمتطي فرسه ويلبس (البزة العسكرية) الخضراء، رمز العزة والشموخ، إذ كان لا بد من (قائد) من الجيش يمثل ولو الحد الأدنى من تطلعات الشارع السوداني.
في لحظات البحث تلك، ظهر الفريق عبدالفتاح البرهان في ميدان الاعتصام، وانتشرت له صورة وهو يضع يده على كتف رئيس حزب المؤتمر السوداني أحد قيادات الحرية والتغيير البارزين إبراهيم الشيخ. وقتها لم يكن هنالك أحد يعرف البرهان وقد كانت مواقع التواصل الاجتماعي تسأل من الذي يقف مع إبراهيم الشيخ في الصورة؟ على طريقة (الرجل الورا عمر سليمان). من هنا بدأ البرهان وكانت تلك (اللقطة) أو (الصورة) وهو يضع يده على كتف إبراهيم الشيخ متبسما، أول عتبة للبرهان في سلم الوصول لكرسي الرئاسة.
غير أن البرهان تنكر لمن أتوا به، كعادة العسكريين الذين يجري (الانقلاب) دائما في دمهم،. وتاريخ البرهان يؤكد ذلك، فهو تنكر للبشير تحت غطاء الانحياز للشعب، ثم انقلب على حمدوك في 25 أكتوبر، من أجل الإصلاح ومنع تمزق البلاد وتشاكس السياسيين على السلطة، ثم انقلب على حميدتي رفيق دربه في دارفور، وشريكه في السلطة في 15 ابريل، استجابة لرغبة فلول النظام البائد الذين استجاب لهم في رغبة الانقلاب على حمدوك.
ظهور البرهان في ميدان الاعتصام لم يكن نتاج الصدفة، الرجل قال بعد ذلك في حوار تلفزيوني إن والده رآه في المنام رئيسا ، وكاد البرهان أن يقول لوالده بعد أن أصبح الرئيس: يا أبَتِ هَذا تَأْوِيلُ (رُؤْياك) مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا. إننا ندفع الآن ثمن أضغاث هذا الحلم، الذي يبدو أنه كان (كابوسا) أزعج السودانيين.
كان أمام البرهان فرصة تاريخية ليقود البلاد إلى الحكم المدني والنمو والتطور، كان التاريخ سوف يسجل له ذلك. كما سجل للمشير عبدالرحمن سوار الذهب الذي سلّم السلطة لحكومة الصادق المهدي المنتخبة، سوار الذهب غير البرهان الذي لم يحتمل حتى رئاسة (مدني) لمجلس السيادة في الفترة الانقلابية، لينقلب على حكومة حمدوك حتي يظل رئيسا لمجلس السيادة بعد أن انتهت دورته في رئاسة المجلس.
السودان دخل في هذا النفق بسبب انقلاب 25 اكتوبر الذي أدى بصورة تلقائية إلى حرب 15 أبريل. ويمكن أن تؤدي حرب 15 أبريل إلى تمزق السودان وتشتيته وتقسيمه، والله المستعان.
المنطق كان يقول إن البرهان الذي لم يتفق مع شخصية (مدنية) بمواصفات الدكتور عبدالله حمدوك، الهادئ والمسالم والمتزن، من الصعب أن يتفق مع شخصية (عسكرية) ذات طباع متقلبة ومشاكسة ومزاج حاد مثل حميدتي، لهذا كانت الحرب. أفسد البرهان على نفسه فرصة تاريخية بسبب وساوس الكيزان (وزنّهم عليه)، حيث انقلب على حمدوك ثم انقلب على حميدتي والانقلابان كان خلفهما رموز وفلول النظام البائد الذين أدخلوا الجيش في حرب بالوكالة.
كان يمكن إقصاء حميدتي بصورة دبلوماسية، عن طريق تخطيط وتكتيك أفضل من خطة هذه الحرب التي لم يكن لهم فيها نصيب من (التخطيط) غير الانسحابات التكتيكية. البرهان تنطبق عليه الآن كلمات الشاعر صالح عبد السيد أبي صلاح عندما كتب قبل قرن في 1926 (مـا كنت رايق وساكن في صفاء وتأمين. فـي الـخوجلاب ياقلبي مني شالك مين). كان البرهان على رأس السلطة التي تمثل ثورة ديسمبر المجيدة، وكان العالم كله وليس الشعب السوداني فحسب يفتح إليه ذراعيه، ولكن فلول العهد البائد أفسدوا عليه ذلك.
خرج البرهان من مقر سلطته القصر الجمهوري، ومن مقره العسكري القيادة العامة، وأصبح يتجول بين مدن السودان مكتفيا بكلامه الذي يخاطب به بعض جنود القواعد العسكرية في الشرق والشمال. هذا لم يعد متاحا له في الخرطوم وحدها وانما حرم منه في دارفور وكردفان والجزيرة أيضا، بعد أن فقد الجيش سيطرته على تلك الولايات.
لقد أصبح البرهان يدير حكومته من مواقع التواصل الاجتماعي، وليس لنا غير أن نقول له (مـا كنت رايق وساكن في صفاء وتأمين). الأمر الغريب أن الكثير من المنصات الإعلامية، ومن قيادات الجيش نفسها انتقدت انسحاب قائد الفرقة الأولى مشاة في مدني، وأعلن البرهان عن التحقيق في ذلك رغم أن قيادات الحكومة والبرهان نفسها انسحبت من الخرطوم، ونقلوا العاصمة الي بورتسودان.
الهزيمة الأولى كانت في خروج البرهان وكباشي وانسحابهما من أرض المعركة، بل في تحويل العاصمة للشرق، وترك الخرطوم لميليشيات الدعم السريع تفعل فيها ما تشاء.
مؤشر الأحداث الآن يشير إلى أن الفلول قد ينقلبون على البرهان، وقد يتخلصون منه ويبعدونه من السلطة، بعد ان بدأ لهم كرتا محروقا. ومثلما انقلب البرهان على حمدوك وحميدتي، يمكن للكيزان أن ينقلبوا عليه، وقد ظهر التمهيد لذلك من خلال الانتقادات التي أصبحت ترد من الفلول منتقدة الجيش، والبرهان تحديدا، بعد أن كان الجيش والبرهان منطقة عسكرية مقدسة يمنع الاقتراب منها أو انتقادها.