``وهذا العذاب جمالُكَ``
محمد عبد الماجد
وأنا في لجّة أحزاني، أتقافز مثل لواعج الذكرى في أوائل الشتاء، أو كطائر فَقدَ الطريق إلى عشه يبدو حائراً كحيرتي، أحاول مع سبق الإصرار والترصُّد أن أغزل من الوجع طبق فول أو كباية شاي، أو ابتسامة فاترة. أحاول أن أجعل الطريق يسعنا جميعاً. بعض أزماتنا تنتج من أننا لا نرى غير أنفسنا. بعض جراحنا علاجها في المزيد من الجراح.
أبدو متجولاً وجائلاً مثل دراويش الفيتوري في (معزوفة لدرويش متجول):
في حضرة من أهوى
عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه
ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي
في الآفاق
عشقي يفني عشقي
وفنائي استغراق
مملوكك.. لكني سلطان العُشّاق
هذه الكلمات أفرطنا في استهلاكها، وأسرفنا غرسها في المرحلة الثانوية حتى إنّنا لم نترك موضوع إنشاء لم نحشر فيه تلك الكلمات. في حضرة الهلال، نحن نكون، كذلك نحدق بلا وجه ونرقص بلا ساقٍ، إنّه حالة عشق خاصة تجعلنا اللا شعورياً هكذا نحن بذلك العشق.
كان محمد أحمد محجوب بعد تجاربه العظيمة يكتب (طالما أكّدت، كلما واجه الحكم الديمقراطي أزمة، إن خير علاج لعلل الديمقراطية إعطاء الناس المزيد من الديمقراطية والحرية). نحن نحتاج للمزيد، دعاة العسكرية ألم تلجمهم تلك الدماء؟ ألم تنهِهم وتشعرهم بالخجل؟
قال أحد نجوم الكوميديا الهائمين، إنّه كان ينوم في حصة الرياضيات وكان بسبب نومه هذا يطرده أستاذ الرياضيات من الحصة، فيتّجه ذلك الطالب بعد طرده من الحصة إلى حضور بروفات إحدى المسرحيات في مسرحٍ قريبٍ من المدرسة، كان يفعل ذلك خِلسةً وهو يتابع البروفات من وراء ستار، دون أن يشعر به أحدٌ، لتكون متابعته لتلك المسرحيات سبباً في عشقه للمسرح، وسبباً من بعد في أن يكون أحد نجوم الكوميديا، هو مُدانٌ لأستاذه بفضل طرده من الحصة، فلولا أنه كان ينوم في حصة الرياضيات لما أصبح من نجوم الكوميديا في الهند، لا أذكر اسم الممثل، ولكن أذكر الموقف عندما كان يحكي عنه صاحبه في أحد حواراته التلفزيونية المُدبلجة.
أحاول أن أخرج من النص، ولولا الخروج من النص لما أصبح عادل إمام نجم الكوميديا الأول في الوطن العربي.
مكي سنادة حكى لنا عن دوره في مسرحية (خطوبة سهير)، وهو يقوم بدور خليل الأب السِّكِّير والعربيد، ويجيد فيه بصورة جعلت أحدهم يأتي كل يوم للمسرح القومي ليسأل مكي سنادة عن هذا الصنف الذي أوصله إلى تلك الدرجة من السُّكر، كان يقول له بعد نهاية المسرحية: أنا عاوز أعرف الصنف دا جايبو من وين؟ فقد كان سنادة يذوب في الدور حتى تكاد أن تشتم منه رائحة الخمر!
نحتاج إلى أن نتعلّم، عندما كنت أحاول أن أهرب عن أحزاني، أوقفني مشجع هلاليٌّ جميلٌ وقارئٌ فطنٌ، وهو يعطيني درساً لم يقصده إلّا أنّني تعلّمت منه كثيراً. ذلك الهلالابي واسمه (عباس علي)، جعلني أشعر بالخجل، ودفعني إلى أن أفتح أبوابي للحُزن، وأنا أرحِّب به، وللحُزن في هذا المقام وقارٌ وأدبٌ يجعلك تفتخر به.
قالي لي (عباس علي)، إنّه بعد مباراة الهلال والنجم الأخيرة، عاد إلى بيته يشكي من الوجع، كانت ليلته حزينة بعد تعادل الهلال مع النجم وهو يتقلّب في وسادته دون أن يعرف النوم طريقاً إلى جفنه حتى أنقذه الفيتوري من أرقه عندما توقّف في قصيدته (التراب المقدس) وتذكر قوله:
أمسِ جئتَ غريباً
وأمسِ مضيتَ غريباً
وها أنْتَ ذا حيثُما أنتَ
تأتي غريباً
وتمضي غريباً
تُحَدِّقُ فيك وُجوه الدُّخَانِ
وتدنو قليلاً..
وتنأى قليلاً..
وتهوى البروقُ عليك
وتَجْمُدُ في فجواتِ القِناعِ يداك
وتسألُ طاحونةُ الرِّيح عَنك
كأنّكَ لم تكُ يَوماً هناكَ
كأنْ لم تكُنْ قَطُّ يوماً هنالك...
والفيتوري كلماته مثل (المسامير) تنخر في جدار الصمت فتؤزها أَزّاً.
في مدينتنا الصغيرة ونحن أطفالٌ، نحوم في نواصي الليالي حافيو الأقدام، أذكر أنّني كنا نوقد مصباحنا بكلمات محمد مفتاح الفيتوري، كانت تلك الكلمات تُوقد في جذوتنا الأمل. كنا ننتظر أهداف والي الدين محمد عبد الله في نشرة تسعة بعد أن نتدفّأ بكلمات الفيتوري. وأهداف والي الدين كانت مثل عشاء الكوكتيل في مناسبات الأعراس، أو هي مثل (السيوتر) في البرد.
وهل هنالك أجمل من هذا الياقوت:
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استحياء
والغافل من ظنّ الأشياء
هي الأشياء..
لقد كنا نضمد جراحنا بهذه الكلمات، ثم نخفي أحزاننا في وجوهنا المُرهقة.. المُتعبة التي أضناها السهر. كنا نحتاج إلى الكثير من الوقت حتى نفهم أنّ الأشياء ليست هي الأشياء. أتفهمون هذا الآن؟.. الأشياء ليس هي الأشياء.
يقول لي عباس علي، إنّ النوم لم يعرف طريقاً إلى جفنه بعد تعادل الهلال والنجم إلّا عندما وصل إلى المقطع الذي يقول فيه الفيتوري في قصيدة (التراب المقدس):
وَسِّدِ الآنَ رَأسَكَ
هذا هُوَ النَّهرُ تغزِلهُ مرَّتَين
وتنقضه مرَّتَين
وهذا العذاب جمالُكَ
يا للروعة!
مرة أخرى كم من السنين كنت أحتاج لكي أصل لهذا العنوان البديع (وهذا العذاب جمالك)؟ إنّ الفيتوري اختزل لنا كل شئٍ، وجعلنا على سعة نرحب بهذا العذاب، فهذا العذاب جمالك. لا أعرف من كان أبدع من الآخر، الفيتوري أم عباس علي؟ عندما تغلّب على عذاب تعادل الهلال أمام النجم وانتصر عليه بهذا الجمال!!
قلت إنّني أبحث عن هذه الانتصارات، استهدفها، فهي التي تهمنا في هذا السباق. الهلال يوصلنا إلى هذا الحد من الوله والتصوُّف. تخرج من هنا دائماً مرفوع الرأس، لقد عرف عباس علي أن يتغلّب على أحزاني، وأن ينتصر على كل الانكسارات، وينوم ملء جفونه بعد ذلك. مثل هؤلاء القُرّاء كيف نكتب لهم، هم يحتاجون منا إلى لغة خاصة، وحروف جديدة وحوار مختلف، الهلال يجمعنا في ذلك المحراب.
لولا أنّ اللغة العربية ساحرة ولغة بحر، لنفضت قلمي من مدادها.
عثمان حسين في رائعة حسين بازرعة (قِصّتنا) يقول:
(يا حبيبي لم تزل قِصّتنا قصة حب أقوى من الحقيقة)..
لا أعرف شيئاً أقوى من الحقيقة غير هذا الذي تغنّى به عثمان حسين، لقد تمرّد بازرعة على الواقع وعلى الحقيقة، وأعلن بشكل رسمي عن أنّ قصة حبه أقوى من الحقيقة، وما في كلام بعد هذا. خلاص خلص الكلام. أقول ذلك لأوضِّح ضرورة (الفلسفة) في التعامل مع الأشياء، يعني أي زول ضروري تكون عنده فلسفته الخاصة حتى ينجو من هذه الحياة بأقل الأضرار.
قرأت مرّة لأحدهم بعد أن ضاقت الدنيا عليه قوله إنّ الموت أنقذهم من هذه الحياة.
إنّها فلسفة أخرى يمكن أن تنتج من الصلصة الفاسدة (عسل نحل). النحل عندما يخرج عسله لا يضع ديباجة لتاريخ الإنتاج ولا انتهاء الصلاحية، إنّه عسل نحل! الشركات المنتجة تفعل ذلك حتى تضمن سوقاً لإنتاجها الجديد.
من بين الذي كنت أكتبه في مذكراتي (الدراسية) أنّ (عكسيات) منصور بشير كانت (مُوزّعة) بنوتة مُوسيقية. وإنّ (تمريرات) البرنس هيثم مصطفى كانت ساحرة ونافذة وقادرة مثل (عصا موسى) تحمل الأهداف وتُغيِّر النتيجة. وإنّ (أهداف) مهند الطاهر بالألوان الكاملة مثل كراسة التقديم للقبول في الجامعات. وقبل ذلك، كان محمد حسين كسلا يلعب الكرة بمشرط طبي. يلعبها بمخدر موضعي.
وكان طارق أحمد آدم (يفرمط) أيِّ مهاجم يقف أمامه، بغض النظر عن اسمه وحجمه وتاريخه الكروي. حملات التطعيم من الملاريا كانت تحضر في أهداف بشّة وليالي الأنس والسّمر تأتي في أهداف الغربال.
أذكر هدفاً لمعتز كبير في المريخ قالوا بعده إنّ (الحفرة) هي السبب فيه، فردّ عليهم بسطاوي بضربة رأسية من منتصف الملعب قالوا إنّ (النافورة) هي من تسبّبت فيه! وأن أنسى لا أنسى أهداف صلاح الضي تلك التي فتحت أبواب (التعليم عن بُعد) في الجامعات السودانية.
نكتب والوجع ينثر أحزانه على ربوع الوطن، غير أنّ كفاحنا مازال يراهن على الغد المشرق والسودان الذي نحب. نعيش أيضاً مع الوطن في كنف الفيتوري وعبارته التي انتصر بها على العذاب (وهذا العذاب جمالك). وعثمان حسين من كلمات بازرعة في (بعد الصبر) يغني (لستُ أدرى هل عذابي أم عذابك كان أكثر)، ثم يرفع الجلسة في الأغنية نفسها (لو حصل في العمر مرة وافترقنا.. هي غلطة ونحنا نتحمّل عذابها). وفي هذا العذاب جمالك!
….
متاريس
علينا ان نُسدِّد فواتير عشقنا لهذا الوطن.
علينا أن ننهض.
وأن نقول لا...
…
ترس أخير: يبقى لحين السَّداد.