03/01/2024

العَدَالَةُ الانْتِقَالِيَّة بَيْنَ الوَاقِعِ السُّودَانِيِّ والتَّجَارِبِ العَالَمِيَّة‎ (2 – 3)

كمال الجزولي
III
وهكذا لا يتبقى للسُّلطة الانتقاليَّة سوى خيار «العدالة الانتقاليَّة»، كمفهوم حديث يمكن أن يفضي إلى تفريغ الاحتقان، وإزالة الغبن، في ما لو أخذ بحقِّه، وفق الخبرة الدَّوليَّة المتراكمة. وسنحاول، في الفقرات التَّالية، إدراك الدَّلالة الحقيقيَّة لهذا المفهوم من النَّاحيتين النَّظريَّة والعمليَّة.

فإذا كنَّا نعتبر تصريف العدالة، فى الظروف العاديَّة، وظيفة أساسيَّة من وظائف الدَّولة، تؤدِّيها هيئة قضائيَّة مستقلة، فإن هذه الوظيفة تتقدَّم، في الظروف غير العاديَّة التي تكون خلالها الدَّولة في حالة «انتقال» من «نظام شمولي» إلى نظام «ديموقراطي»، أو من «حرب أهليَّة»، أو نزاعات داخليَّة مسلحة، إلى «سلام» و«مصالحة» وطنيَّة شاملة، لتمثِّل الأهميَّة الأكثر إلحاحاً ضمن وظائف الدَّولة، بهدف إزالة الظلامات، وتضميد الجِّراحات التي تكون قد نجمت، ولا بُد، عن الممارسات القمعيَّة أو الأوضاع الحربيَّة السَّابقة، وإزاحة العقبات التي تعرقل طريق الانتقال المنشود. ومن هنا جاء مفهوم «العدالة الانتقاليَّة» الذي يقرن بين عنصرين:

العنصر الأول «العدالة»: فرغم أن هذا المفهوم ينصبُّ، بوجه عام، على تحقيق ذات الأهداف التي تتغيَّاها، عادة، آليَّات «العدالة التَّقليديَّة»، كالمحاكم، والنِّيابات، والشُّرطة، وأجهزة محاربة الإفلات من العقاب كافَّة، إلا أنه ينطوي، في حالة «العدالة الانتقاليَّة»، على دلالات أكثر شمولاً، باعتباره مركَّباً من «الحقيقة Truth»، و«جبر الضَّرر Reparation»، و«الإصـلاحات الهيكليَّة Reforms»، باتِّجـاه تحقيق "المصـالحة الوطـنيَّة Reconciliation".

العنصر الثاني «الانتقال»: ويشير إلى «التَّحوُّل» الكبير من «الشُّموليَّة» إلى «الدِّيموقراطيَّة»، أو من «الحرب» الى «السَّلام»، أو كليهما. فرغم أن هذه العمليَّة عادة ما تتَّسم بالتَّعقيد، فضلاً عن استغراقها الكثير من الوقت، إلا أن تطبيقاتها، في معظم التَّجارب العالميَّة، نجحت، حيثما ساعدت سياسات «فتح الصفحات الجَّديدة»، و«خلق البدايات الجَّديدة»، على تقوية وتسريع وتائرها، بما يبلغ بمسار «العدالة الانتقاليَّة» سدرة منتهى «المصالحة»، ليس مع النِّظام السَّابق، كما يعتقد البعض خطأ، وإنَّما مع «الذَّاكرة الوطنيَّة» و«التَّاريخ الوطني»، على حدِّ إفصاح نلسون مانديلا السَّديد، لحظة مغادرته الزَّنزانة الموحشة، منتصراً، عام 1990م، بعد أن قضى سبعاً وعشرين سنة بين جدرانها الشَّائهة، وتعبيره عن رغبة صميمة، ليس في التَّشفي، بل في خلق بيئة صالحة لـ «التَّسامح»، مؤكِّداً أن «إقامة العدل» أصعب من «هدم الظلم»، ومتسائلاً: «أيُّ وطن هذا الذي نحلم بتحريره، وإعادة بنائه، إن نحن أطلقنا العنان لمشاعر الانتقام تسفح كلَّ هذه الأنهار من الدِّماء، وتدلي كلَّ هذه الأشلاء البشريَّة من فوق أعمدة المشانق».

أمَّا من ناحية التَّعريف الإجرائي لمفهوم «العدالة الانتقاليَّة»، فإنه يشير إلى مجموعة التَّدابير الشَّاملة للملاحقات القضائيَّة، حيناً، وغير القضائيَّة، أغلب الأحيان، والتي قد تقوم دول مختلفة بتطبيقها لمعالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدَّولي الإنساني. وغالباً ما ينصبُّ المفهوم، في دلالته الحديثة، على التَّدابير غير القضائيَّة التي تتضمَّن، أوَّل ما تتضمَّن، إصدار قانون خاص بتكوين آليَّة مستقلة لتنظيم عمليَّة المجابهة بين غرماء الأمس ـ الجَّلادين وضحاياهم ـ والإشراف عليها، وعلى ما تتمخَّض عنها من نتائج.

«العدالة الانتقاليَّة»، إذن، لا تعني، كما قد يتصوَّر البعض، أو يتبادر إلى أذهانهم خطأ، مجرَّد «عقد محاكمات»، بالشكل «التَّقليدي»، خلال فترة «انتقاليَّة»، بقدر ما تعني، غالباً، إنفاذ "العدالة" بصورة «غير تقليديَّة» خلال هذه الفترة. لذا لا يكون إدراك محتواها المفاهيمي والاصطلاحي بمعزل عن شبكة المفاهيم والمصطلحات التي يتضمَّنها هذا المحتوى، مثل "لجان الحقيقة ـ إعادة تأهيل الضَّحايا ـ المصالحة الوطنيَّة ـ الإصلاح القانوني والقضائي والسِّياسي" .. الخ. فهي تشتغل، بوجه عام، في مجتمعات ما بعد التَّغيير لطيِّ صفحة الماضي، ولتمكين هذه المجتمعات من فتح صفحة جديدة، لا لكي «تنسى»، وإنَّما لكي «تسامح» و«تعفو»، وتبدأ عهداً مغايراً من المشاركة والمساواة، فالموتى وحدهم، على قول حكيم لجاك دريدا، هم من يعجزون عن ممارسة «التَّسامح» و«العفو». وتمثِّل هذه الشَّبكة، في مجملها، مفهوماً دالاً على حقل من النَّشاط تتركَّز فيه، بصورة مبتدعة، كيفيَّة مخاطبة مختلف المجتمعات لتركة الماضي المثقلة بالانتهاكات الفظة للقانون الإنساني الدَّولي، بغرض تهيئة أرضيَّة مناسبة لبناء مستقبل أكثر ديموقراطيَّة، وعدلاً، وسلاماً.

IV
مع تنوُّع التجارب والخبرات العالميَّة لـ «العدالة الانتقاليَّة»، فإن ترتيبات الكشف عن «الحقيقة» تمثِّل القاسم المشترك بينها، باعتبارها بداية الطريق. وعادة ما يعتبر هذا القاسم المشترك بمثابة المنهج الأصوب لمجابهة التَّركة المطلوب تصفيتها. ويندرج ضمن هذا المنهج:

أ/ قانون خاص بتكوين آليَّة مستقلة لتنظيم هذه المجابهة، والإشراف عليها. وغالباً ما تتَّخذ هـذه الآليَّـة شـكل "الهـيئـة الوطـنيَّة للحـقيقة والمصالحـة"، كما في خـبرة جـنوب أفريقـيا (1994م)، أو "الهيئة الوطنيَّة للحقيقة والإنصاف Equity والمصالحة"، كما في خبرة المغرب (2004م). وعموماً فإن خبرات هذه «الهيئات الوطنيَّة»، بما فيها تأسيس منصَّات الكشف عن «الحقيقة»، وبرامج «جبر الضَّرر»، وصولاً إلى تحقيق «المصالحة الوطنيَّة»، بالإضافة إلى «الإصلاحات» المؤسَّسيَّة المتنوِّعة، تشمل زهاء الـ 40 ـ 50 بلداً حول العالـم، أبرزهـا، بالإضافـة إلى المغـرب وجـنوب أفريقـيا، كلٌّ من تشـيلي (1990م)، وغواتيمـالا (1994م)، وبولنـدا (1997م)، وسـيراليون (1999م)، وتيمـور الشَّـرقيَّة (2001م)، وهلمَّجرَّا.

ب/ اعترافات الجَّلادين لضحاياهم، أو روايات الضَّحايا علانية، وذلك من خلال جلسات «استماع عمومي Public Hearing» مفتوحة للجُّمهور، تنشرها الصَّحافة، ويبثُّها الرَّاديو والتِّلفزيون، وتتداولها وسائط التَّواصل الاجتماعي كافة.

ج/ حِزَم من أشكال الانصاف، كنظام متكامل لمعالجة الانتهاكات، جسديَّاً، وسايكولوجيَّاً، ومادِّيَّاً، وإعادة تأهيل الضَّحايا، وجبر ضررهم، فرديَّاً وجماعيَّاً. وقد يتخذ ذلك، بالنسبة للأفراد، شكل التَّعويض المالي، أو إعادة الإلحاق بالعمل، أو توفير مصدر الرِّزق المقطوع، أو الدِّراسة، أو السَّكن المناسب، وخلافه. وقد يتَّخذ شكل «التَّمييز الإيجابي Affirmative Action» في التَّنمية، والإعمار، والخدمات، وغيرها، بالنِّسبة للمناطق والمجموعات الإثنية التي طالها التَّهميش، وكذلك بالنِّسبة للنِّساء، وللفئات التي تكون قد عانت من الاستضعاف، وإلى ذلك بعض الإجراءات الرَّمزيَّة، كالاعتذار الرَّسمي من الدَّولة، وما إلى ذلك.

د/ إحياء ذكرى الضَّحايا وتكريمهم، بعد التَّشاور معهم أو مع ذويهم، وذلك بإقامة التَّماثيل والنُّصُب التِّذكاريَّة، وبإنشاء المتاحف، كالمتحف الذي أقيم، مثلاً، داخل مصنع البطاريَّات بسيربينيتسا في البوسنة، حيث وضعت متعلقات 20 من أصل 8000 ضحيَّة من المسلمين الذين تمَّت تصفيتهم فيه من جانب الصِّرب، وإلى ذلك تحويل المواقع التي كانت تستعمل في الماضي كمعسكرات اعتقال، أو تعذيب، على غرار "بيوت الأشباح"، إلى منتزهات تذكاريَّة، فضلاً عن تفعيل الحوار البنَّاء حول أحداث الماضي، فليس المطلوب هو النِّسيان، بل الصَّفح والعفو.

هـ/ تحقيق ودعم مبادرات "المصالحة" في المجتمعات المنقسمة، بمشاركة الضَّحايا، أو من يمثلونهم سياسيَّاً ومدنيَّاً، حول ما يمكن عمله لإبراء الجِّراح، وخلق فرص التَّعايش السِّلمي مع «أعداء» الماضي، بما يفتح الطريق نحو بناء المستقبل الوطني الأفضل.
و/ إصلاح المؤسَّسات الرَّسميَّة التي قد تكون استخدمـت في الانتهاكات «الأمن ـ الشُّـرطة ـ الجَّيش ـ القضاء .. مثلاً»، كإجراء وقائي ضدَّ تكرار الانتهاكات مستقبلاً.

ز/ تمخَّضت هذه الخبرات والتَّجارب الدَّوليَّة عن تأسيس «المركز الدَّولي للعدالة الانتقاليَّة ICTJ» بنيويورك، وذلك بفضل جهود البروفيسير أليكس بورين والقس ديزموند توتو، اللذين يُعتبران المهندسَـين الحقيقيَّين، إلى جانب مانديـلا، في ما يتَّصل بتَّجـربـة جـنوب أفريقــيا.

لقد أفضت جملة تلك التَّجارب والخبرات إلى الارتقاء بخطاب المجتمع الدَّولى من مجرَّد المطالبة بتيسير الوصول للعدالة Access to Justice، فى سبعينات وثمانينات القرن المنصرم، إلى تعزيز مبادئ المحاسبية Accountability، والتَّشديد على عدم السـَّماح بالافلات من العقاب Impunity، منذ مطالع تسعيناته، حتَّى أضحت هذه التَّجارب والخبرات بمثابة علامة انعطاف فارقة، في التَّاريخ الإنساني، يُستهدى بها، لأجل ابتداع وإثراء أشكال جديدة لـ «العدالة الانتقاليَّة»، من واقع المخزون الأخلاقي، والدِّيني، والثَّقافي، لدى مختلف الشُّعوب.

معرض الصور