05/01/2024

إقامة العدالة الانتقالية في سودان ما بعد الثورة 1-4

د. سامي عبد الحليم سعيد
مقدمة:
لقد شهد السودان منذ بدايات العام 2018 العديد من التحولات السياسية والاجتماعية والامنية، وفي سياق تلك التحولات، شهدت العلاقة بين المواطنين والسلطات الحاكمة، تدهوراً كبيرا حيث تواصل الغضب الشعبي، وتزايدت مظاهر عدم التوافق، إلى أن تفاقمت الأوضاع بعد ان أعلنت قوى سياسية ونقابية ومنظمات مجتمع مدني تنظيم عصيان مدني وإضراب سياسي من خلال مقاومة سلمية، أدت إلى إسقاط النظام السياسي القمعي في الحادي عشر من أبريل2019.

كانت أبرز الشعارات التي تنادى بها الثوار، وطالبوا بتحقيقها، كان شعار (حرية – سلام – وعدالة)، وفي مضمار العدالة سادت مناقشات عديدة حول محاكمة الدكتاتورية، والفساد، والإرهاب، وانتهاكات حقوق الإنسان وغير ذلك، وإستجابة لذلك وجد الحديث عن العدالة الإنتقالية مساحة مقدرة، ومناقشات كبيرة، بما في ذلك تشريح التجارب الأفريقية والعربية المشابهة للحالة السودانية.

هذه الورقة تحاول أن تتجنب تكرار ما قيل، بمحاولة تطبيق مفاهيم العدالة الإنتقالية على الحالة السودانية، بتسليط الضوء على الموضوعات السودانية، والظروف القانونية والمؤسسية، مع محاولة الإستهداء بالتجارب المشابهة.

أولاً: لماذا العدالة الانتقالية في السودان:
من الواضح بحسب الوثائق الدولية المعتبرة، بما فيها وثائق الامم المتحدة الخاصة بالحق في الحصول على العدالة، قد شجعت على إجراء إصلاحات تشريعية ومؤسسية في الدول التي تعيش حالة الانتقال السياسي - من الديكتاتورية الى الديمقراطية - كما وضعت مبادئ مهمة للعدالة و دورها في بناء السلام، ومن بين ذلك أيضاً شجعت تعزيز دور الوسائل والآليات و المناهج المحلية في إقامة العدالة، بحيث يصح القول أن العدالة الانتقالية قد تتأسس على عدالة رسمية وغير رسمية، أو قضائية وغير قضائية.

للإجابة على سؤال: لماذا العدالة الانتقالية في السودان، نحاول فيما يلي أن نضع بعض المبادئ المتصلة بالسياق السوداني:
1. الحق في الحصول على العدالة
من الطبيعي أن تنهض الشعوب ضد الظلم والعنف والفساد، وأن تقوم الثورات على الدكتاتورية وانتهاكات حقوق الانسان، وبالتالي كان من المتصور أن يتواصل الفعل الشعبي والمؤسسي بغرض إنهاء عصر الدكتاتورية في السودان، بعد أن تمكنت من حيواتهم، وحرياتهم، ومواردهم. ومن الثابت أن كل الشعوب المتحضرة، وبعد أن تبدأ في تلمس طريقها نحو الكرامة الانسانية والديمقراطية، تضع لذاتها نظاماً للعدالة لمعالجة الانتهاكات التي ارتكبتها الدكتاتورية تجاوزاً للقانون، وإنحرافاً بالسلطة العامة، وفساداً في توظيف مقدرات الدولة لتمكين النظام الدكتاتوري، ومؤسساته، وشخوصه الطبيعية. تستهدف الدول في حالة الانتقال من تلك العدالة تعزيز السلام الاجتماعي، بالاقتصاص من المجرمين الذين انتهكوا قوانين البلاد والقيم الانسانية والاعراف المرعية، ومن خلال اتباع نهج العدالة على الانتهاكات التي ارتكبتها الدكتاتورية، يشعر المواطنون بأن في ذلك إقرار بالحق في العدالة، وإقرار بوقوع انتهاكات جسيمة، وبالتالي فيه إدانة للجرائم التي ارتكبت ورد اعتبار للضحايا والمظلومين من خلال جبر الضرر. وتكمن أهمية العدالة ضد انتهاكات حقوق الانسان، في انها حق قبل كل شئ، وله أثره الاجتماعي بناء السلام والتعايش الاجتماعي.

يجب على العدالة في سياق الانتقال السياسي من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، أن تستوعب الظروف السياسية والامنية، وتستجيب لأهداف بناء السلام والعدالة، كمتلازمتين يستفيد كل واحد منهما من الآخر، فتكون العدالة ضرورة لا غنى عنها لبناء السلام، كما أنه بغياب السلام يتعثر تطبيق العدالة. ومثل تلك العدالة يطلق عليها في بعض صورها "العدالة الانتقالية".

في الحالة السودانية، وبموجب تقارير رسمية حكومية ودولية، ظلت هناك انتهاكات جسيمة ترتكب، بصورة مستمرة، على صعيد جبهة حقوق الانسان، ومن بين تلك الانتهاكات ما ظلت ترصده بصورة دورية تقارير مكتب المفوض السامي لحقوق الانسان التابع للامم المتحدة بخصوص اوضاع حقوق الانسان في السودان في كل عام، وكذلك ما ظلت تنشره احياناً المؤسسات الحكومية بصيغ وطرق متباينة. وبالتالي صارت انتهاكات متفق على حدوثها.

وهناك ملفات الفساد التي لا تحصى ولا تعد، والتي صرحت بها مؤسسات الحكومة وقتها في مرات عديدة، وتناولتها وسائل الاعلام المحلية بكثافة، ونشرتها تقارير دولية عديدة، وبالتالي صارت قضايا الفساد من الموضوعات المعلومة بالضرورة لدى المؤسسات العامة والغير حكومية.

ومن ضمن ذلك، نرى قلق كبير لدى المواطنين حول مصير موارد السودان التي تم تهريبها خارج السودان، في شكل أموال نقدية مودعة في بنوك خارجية بأسماء أشخاص ينتمون للمؤسسات الحاكمة. أو مؤسسات قومية تم بيعها إلى أشخاص وشركات قطاع خاص دون مراعاة المعايير المالية والمحاسبية ولا لوائح التصرف في الاموال العامة، بمعني ان التصرف فيها تم بموجب اعتبارات شخصية ودون مراعاة مقتضيات القانون والاجراءات المخصصة للتصرف في المال العام.

وإذا كانت تلك وقائع شبه متفق على حدوثها، وربما صدر بخصوصها إقرارات من مؤسسات حكومية رسمية تؤكد تلك التجاوزات. فان النظام العدلي الذي ظل سائدأ إبان الدكتاتورية، لم يعد باستطاعته تطبيق العدالة في مواجهة تلك الانتهاكات بصورتها المنصفة والصحيحة، وذلك لكون أن القوانين السارية، قد تمت صياغتها لتخدم مصالح الطبقة المتنفذة وتحميها، ولأن العاملين في مؤسسات إنفاذ العدالة، بما في ذلك القضاة، قد تم اختيارهم وفق معايير معينة تتلاءم مع تطلعات الطبقة الحاكمة المسيطرة على الحكم في البلاد. ولطالما تم توصيف تلك المعايير بـ(التمكين)، وفي سبيلها تم طرد عدد كبير من قدامى الموظفين الاكفاء، تحت سياسة (الصالح العام)، بسبب افتقارهم لتلك المعايير التي تطلبها الطبقة القابضة على الحكم في البلاد.

2ـ العدالة والتحول الديمقراطي:
لقد بات من الواضح الآن، بأن الفساد يشكل إحدى العقبات الرئيسة أمام تحقيق السلام، والعدالة، والتنمية المستدامة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك سودان ما بعد الدكتاتورية.

إن تحقيق متطلبات النمو والاستقرار والرفاهية، يكمن في اتباع نهج متكامل للتنمية، نهج يستهدف النمو النوعي، بما في ذلك البيئة، والتعليم، والصحة والحوكمة. ويعتبر الحكم الرشيد، بطبيعته الشاملة، العامل المشترك، والطريق الذي من خلاله تمر كل تلك العناصر لتحقيق التنمية الشاملة. وهو يتطلب، من بين جملة أمور أخرى، وجود الثقة بين الدولة والشعب، والنزاهة، والشفافية، وسيادة القانون، والضوابط والتوازنات، والتنسيق ما بين الوكالات، وزيادة مستوى مشاركة أصحاب المصلحة الرئيسيين.

في ظل الديكتاتورية يكون النظام العدلي غير قادر (بسبب طبيعة القوانين والحصانات من المساءلة) أو غير راغب في تطبيق العدالة (بسبب تسييس الاجهزة العدلية والفساد). وقد لا يتمكن النظام العدلي الوطني في فترة ما بعد الدكتاتورية من انجاز العدالة المطلوبة، بسبب أن نظام العدالة ما زال خاضعاً لقوانين ومؤسسات النظام الدكتاتوري، ولم تسنح الفرصة الكافية لاعادة تنظيم وهيكلة النظام العدلي. فمؤسسات البوليس والنيابة العامة والقضاء، والقوانين المنظمة لها، في ظل الثلاثين عاماً الأخيرة من عمر السودان، شهدت تجريفاً ممنهجاً تحت سياسة التمكين سيئة السمعة.

العدالة في فترات التحول الديمقراطي أو فترات الانتقال، دائماً ما تعتمد على الإرادة السياسية لدى المجموعة الجديدة التي تسلمت مقاليد الحكم في الفترة الانتقالية. تنعكس الإرادة والرغبة السياسية في إجراء إصلاحات تشريعية ومؤسسية وفي تكوين لجان التحقيق، وتخصيص الموارد لمؤسسات العدالة، كلها أمور سياسية مهمة في سياق تأسيس العدالة.

معرض الصور