إقامة العدالة الانتقالية في سودان ما بعد الثورة 2-4
د. سامي عبد الحليم سعيد
ثانياً تدابير لتصميم عدالة تسهم في بناء السلام والديمقراطية (الحلول العدلية):
1ـ العدالة في الدستور الانتقالي:
من المهم أن يتضمن الدستور الغايات المطلوبة من العدالة وكيفية انجازها. وتلك الغايات تستخلص من الأهداف التي تسعى اليها الدولة بصورتها الجديدة. فالدستور والقوانين والمؤسسات السائدة اليوم، تم إنشاؤها بما يحقق أهداف الدولة الدكتاتورية وغاياتها.
وبهدف تحقيق السلام الاجتماعي والاستقرار ومحاربة التطرف والتمييز، كلها بوصفها مدخلات ضرورية في بناء التنمية والاستقرارا السياسي والتعايش السلمي، يعمل الدستور الانتقالي للثورة، على المساعدة في تعجيل التحول الديمقراطي في المجتمع، لذا من المتصور ان يتضمن ذلك الدستور أحكام أكثر وضوحاً، في عكس أهداف الدولة في المرحلة الجديدة. فاذا كانت الأهداف الجديدة للدولة تؤسس للعدالة الاجتماعية ونبذ التمييز والتطرف، وبناء السلام الاجتماعي والتنمية (تحقيقاً لشعار حرية سلام و عدالة) فهذا يتطلب بالضرورة ان ينص الدستور على سبيل المثال على أن: "يحظر إنشاء أي كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، أو يحرض أو يمهد أو يمجد، أو يروج، أو يبرر له، تحت أي مسمى كان، ولايجوز لتلك المجموعة أو الحزب أن يكون ضمن التعددية السياسية في السودان، وينظم ذلك بقانون".. هذا نموذج بديهي، و مباشر لتحقيق غايات الدولة كما أشرنا إليها هنا.
بالتالي من الممكن تفريغ أهداف العدالة في سياق التحول الديمقراطي، في نصوص دستورية تعمل على إعادة صياغة المفاهيم والمبادئ التي ستعمل في ظلها المؤسسات العدلية في الدولة.
2ـ تكوين المؤسسات:
دائما ما تتكون المؤسسات وتجاز القوانين على ضوء المؤشرات التي يضعها الدستور للحاكمين والمشرعين الوطنيين. و في سياق التحول من حالة الحرب والنزاعات و التمزق، الى السلام واحترام حقوق الانسان والتعايش السلمي، وسيكون من الضروري بناء مؤسسات تعمل على تحقيق تلك الحالة.
وبموجب نصوص الدستور الانتقالي تتكون هيئات ومفوضيات تعمل على إصلاح مؤسسات الدولة، ومن بينها المؤسسات العدلية، وينظم عمل تلك المؤسسات قوانين تعمل بموجبها. من الضروري في هذه العجالة الإشارة إلى بعض التدابير المهمة كإجراءات إنتقالية:
- إحالة كبار مسؤولي النظام الدكتاتوري المشتبه في اشتراكهم في جرائم خطيرة إبان الحكم السابق إلى لجان تحقيق جنائية، ويتم إستبعادهم مؤقتاً عن وظائفهم التي يشغلونها في الدولة الى حين انتهاء التحقيق بتبرئتهم، ويحق لأي شخص خاضع للتحقيق الدفاع عن نفسه واستئناف القرارات الصادرة ضده.
- تأسيس ثقافة المساواة والإنصاف وإحترام حقوق الانسان، وإزالة الأفكار والآيدلوجيات التي خلفتها الثقافة التي عمد على تأسيسها ونشرها النظام الدكتاتوري في المجتمع ومؤسساته.
- وقبل كل ذلك، من المهم إجراء إصلاحات تشريعية ومؤسسية، تجعل من أمر تطبيق العدالة بصورة نزيهة أمراً ممكناً و قابلاً للتحقيق.
ثالثاً: تجارب ورؤى قانونية لتقديم حلول خاصة بوضعية العدالة في مرحلة ما بعد الثورة.
من الموضوعات الدستورية المهمة، تحديد معايير تستهدي بها تشريعات و مؤسسات العدالة.
من المهم الوضع في الإعتبار الظروف والحالة التي تعيشها الأجهزة العدلية والوضع الامني والتوجهات السياسية، بوصفها محددات يجب تجاوزها حتى يتم تطبيق العدالة بصورة نزيهة في فترة ما بعد انتهاء الحكم الدكتاتوري.
عند تطبيق العدالة في مرحلة ما بعد الدكتاتورية، وفي زمن بناء الديمقراطية وبناء مؤسسات سيادة حكم القانون، من المهم جداً تطبيق مبادئ حقوق الانسان، ومعايير العدالة المعتمدة عالمياً، حتى لا تكون العدالة عبارة عن تصفية خصوم سياسيين، وحتى لا تكون عدالة لإظهار نصر الحاكمين الجدد على غرائمهم. يجب أن تتصف العدالة بالنزاهة والاستقلالية، وتؤسس لسيادة حكم القانون من خلال تعزيز مبدأ المساواة أمام القانون، وإستقلال القضاء.
هناك بعض المبادئ أو الأسس التي يجب وضعها في الإعتبار حينما نؤسس لنظام العدالة في مواجهة الذين انتهكوا حقوق الانسان في السودان:
- إن الثورة التي لا تقدم العدالة للمواطنين الذي عانوا من التمييز والاقصاء والظلم والقهر والانتهاكات، تعد بالنتيجة إمتداداً لعهد الظلم والتمييز.
- العدالة تخلق أجواء المساواة، وتعطي دافعية للدفاع عن العهد الجديد، وتوسع من نطاق المساهمة في البناء والتعمير، وفي الدفاع عن الوطن، وتعمل على منع تكرار مأساة الدكتاتورية.
- العدالة تساعد في بناء السلام الاجتماعي من خلال الاقتصاص للمظلومين، وفي ردع الظالمين. وهذه العدالة هي رادع أيضا للحاكمين الجدد، إذ تساعد في تنبيههم من عواقب ارتكاب انتهاكات حقوق الانسان.
هنا ندرس حالات، ونحاول نستجلي أن منها الوضع القانوني باعطاء أمثلة و تطبيقات متناسبة مع الحالة الوطنية. مع التركيز على بعض المحاور المهمة، كما يلي:
أـ الانتهاكات الجسيمة التي أُرتكبت في حق المتظاهرين:
لقد قام دستور السودان الانتقالي لسنة 2005 بالنص في المادة (40) – (1) على: "أن يكفل الحق في التجمع السلمي، و أن لكل فرد الحق في حرية التنظيم مع آخرين، بما في ذلك الحق في تكوين الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والاتحادات المهنية أو الانضمام إليها حماية لمصالحه".
والسودان بوصفه عضو في الامم المتحدة، عليه التزام بموجب المادة (20) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تنص على حرية التنظيم والتجمع السلمي. وبوصفه مصادق على العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية فهو ملزم باحكام المادتين (21 و 22) الخاصتين بالحق في التنظيم و التجمع السلمي.
من المهم هنا، مراجعة بعض التجارب الاقليمية، والتي تمت فيها تطبيق العدالة في مواجهة من انتهكوا حق المواطنين في التجمع السلمي و الحق في التنظيم في السودان. و فيما يلي نستعرض التجارب التالية:
تجربة كينيا:
في ديسمبر 2007 خاضت كينيا انتخابات عامة لانتخاب رئيس الجمهورية (ريالا اودينغا – مواي كيباكي)، وباعلان النتائج بفوز كيباكي خرجت مجموعة المواطنين في مظاهرات رافضة للنتائج متهمة الرئيس المنتخب (كيباكي) بتزوير نتائج الانتخابات، ونتج عن تلك الاحتجاجات والاعتراضات أحداث قتل بشكل واسع، ولما لم يكن القضاء الوطني الكيني مستعداً في ظل الاحتقانات الاثنية والسياسية والعنف المتصاعد، والاستقطابات المتعددة الاطراف، كان من الارجح ان يفشل القضاء الوطني في التعاطي مع تلك الانتهاكات، فتم احالة القضية للمحكمة الجنائية الدولية، التي قامت باتهام ستة شخصيات سياسية مهمة في الحكومة شملت عدداً من الوزراء: نائب رئيس الوزراء، ووزير الصناعة، ووزير التربية، ومدير الشرطة، ومدير الاذاعة، والامين العام لمجلس الوزراء. وكان التلفزيون القومي يبث المحاكمات من لاهاي بشكل يومي حتى يشاهدها الجمهور.
برغم ان كينيا تتمتع بقضاء يكاد يكون من الاجهزة القضائية المتميزة في افريقيا، كما تتمتع بدستور ديمقراطي تنتقل فيه السلطة عبر الانتخابات وبصورة سلمية. إلا أن الظروف الأمنية والتهديدات والشكوك، وانقسام المجتمع استدعى أن يتم إحالة هذه القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، لضمان تحقيق العدالة بصورة نزيهة وبعيداً من أي تشكيك.
تجربة مصر:
بعد انتفاضة 2011 التي أنهت حكم مبارك الذي دام ثلاثة عقود، تلقت السلطات المصرية بلاغات ضد الرئيس السابق وابنيه علاء وجمال وزوجاتهم، وعشرات المسؤولين السابقين ورجال أعمال، متضمنة ادعاءات فساد، وصدرت أحكام أولية ضد عدد كبير منهم بينهم رئيسا الوزراء السابقين أحمد نظيف وعاطف عبيد، لكن أحكاما نهائية صدرت ببراءة معظمهم. وأدين مبارك وابنيه في قضية فساد بحكم نهائي وبات، وعوقبوا بالسجن لمدة ثلاث سنوات فقط.
ان الدولة المصرية بعد انتهاء دكتاتورية حسني مبارك، ظلت محتفظة بالدولة التي اطلق عليها الاعلام بـ (الدولة العميقة) و التي ظلت محكومة بالقوانين والكفاءات المعيوبة، وثقافة الفساد والمحسوبية، ومن بين مؤسسات الدولة العميقة التي مازالت محكومة بتلك الآليات، مؤسسات العدالة. لذا لم يجد المظلومون وضحايا الدكتاتورية في تلك المؤسسات والقوانين، العدالة والإنصاف المنتظر.