09/01/2024

إقامة العدالة الانتقالية في سودان ما بعد الثورة 3-4

د. سامي عبد الحليم سعيد
ب ـ محاكمة جرائم الارهاب:
لقد ظلت الدولة في ظل غياب سيادة حكم القانون، وعدم الالتزام بالمعايير الدولية الخاصة بحقوق الانسان تشترك في العديد من الانشطة التي تعد بموجب القانون الدولي تهديد للسلام والأمن الدوليين. وفي إطار تلك الانتهاكات، وبسببها تعرضت الدولة السودانية و مواطنيها لعقوبات دولية قاسية جداً أثرت على نمو و تطور السودان، كما أثرت بشكل مباشر على علاقاته الدولية.

لقد تم ايواء واستضافة مجموعات إرهابية في السودان بواسطة شخصيات رسمية، وبتسهيل ودعم من أجهزة حكومية، وفي تلك البيئة جاءت محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك فى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا فى 26 يونيو عام 1995 أثناء مشاركته فى اجتماعات القمة الأفريقية، والتي تم فيها اتهام مباشر لشخصيات رسمية وأجهزة حكومية في السودان.

تجربة محكمة اغتيال الحريري
تحكى لنا التجربة الحديثة في محاولة إغتيال الرؤساء بواسطة جماعات إرهابية، أن مجلس الأمن وبطلب من الدولة اللبنانية قد قام بتكوين محكمة خاصة للتحقيق والمحاكمة في جريمة مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. ففي 14 فبراير 2005 قامت مجموعة بتفجير عربة رئيس الوزراء والموكب المرافق له في بيروت، مما أدى إلى وفاة السيد رفيق الحريري و22 من مرافقية.

أصدر مجلس الأمن الدولي قراره بالرقم 1664 لعام 2006، طلب فيه من الأمين العام للأمم المتحدة التفاوض مع الحكومة اللبنانية بشأن إنشاء محكمة جنائية دولية، إستناداً إلى أعلى معايير العدالة الجنائية المعترف بها دولياً.

تمت إحالة القضية إلى محكمة دولية خاصة، أُطلق عليها اسم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ومقرها لاهاي، واختصت بشكل حصري بالنظر والفصل في قضية اغتيال الحريري. بدأت المحكمة الخاصة مداولاتها فى 2009 مستندة على القانون الجنائي اللبناني، وباتت بذلك أول محكمة جنائية دولية تسمح بتنظيم محاكمة خاصة بموجب القوانين الوطنية، وفى غياب المتهمين، بعد تعيين محامين يمثلون المتهمين الغائبين.

هذه التجربة اللبنانية استندت على تطبيق القانون الجنائي اللبناني بواسطة قضاة اجانب يتمتعون بكفاءة عدلية كبيرة، و قد كانت الحكمة ان لا تسهم المحاكمات داخل لبنان في توسيع دائرة العنف، و كذلك الخوف من التأثيرات الطائفية في مسار العدالة.

ج ـ محاكمة الفساد:
كما أسلفنا بالقول، فان الفساد ظل من الموضوعات التي لم تنكرها مؤسسات النظام السياسي المخلوع، بعد أن طفحت فضائح الفساد في وسائل الاعلام الاجتماعي.

ظلت القوانين السارية، ومؤسسات العدالة تعمل على حماية المال العام من التعدي عليه. إلا أن تلك القوانين وتلك المؤسسات لم تفلح في كبح جماح الفساد، بعد أن تورطت فيه شخصيات كبيرة في أعلى مستويات الحكم. من بين تلك القوانين: قانون الاجراءات المحاسبية والمالية، وقانون الثراء الحرام والمشبوه.

من المهم معرفة ان هذا القانون يتضمن وثيقة اسمها براءة الذمة، وبموجبها يقوم المسؤول بالاقرار بكامل ممتلكاته و ثروته في اليوم الذي تولي المسئولية العامة. من الواضح جداً ان تلك المنظومة القانونية تحتاج الى اصلاحات جذرية، في إطار ملاحقة المفسدين، وفي ظل دولة سيادة حكم القانون يجب ان ان يكون لسلطات العدالة القدرة للتحقيق مع أي شخص بدون أي حصانات، وبالتالي من المتوقع أن تشمل الملاحقات الأشخاص الذين يشتبه في ارتكابهم جرائم فساد، و قد تشمل ولايتها من حيث الاشخاص:
- الموظفون الرسميون في مستويات الدولة المختلفة.
- السياسيون، بما في ذلك اعضاء البرلمان و قيادات الاحزاب السياسية.
- المواطنون السودانيون، بما في ذلك رجال الاعمال.
- الاجانب، بما في ذلك المستثمرين

وتشمل من حيث النطاق الزمني: كل الجرائم الماسة بالوظيفة العامة والمال العام والتصرفات الماسة بالاقتصاد الوطني ومنذ قدوم الدكتاتورية الى الحكم.

من حيث الموضوع، فان تلك العدالة يجب أن تشمل الاموال العامة، والامتيازات والإعفاءات الحكومية، المملوكة لحكومة جمهورية السودان، سواء كانت موجودة داخل أو خارج السودان وقت التصرف فيها. وتشمل جرائم الفساد التي تلاحقها العدالة، كافة الافعال الايجابية أو السلبية، التي تعمل على إهدار المال العام بسوء نيّة، سواء كان الفعل بالاشتراك والمساعدة في ارتكابه، أو التحريض على ارتكابه.

رابعاً: التعاون الدولي في موضوعات الفساد:
لم يصادق السودان على الصكوك القانونية الدولية الرئيسية لمكافحة الفساد، وإطاره القانوني الوطني غير مكتمل. لكنه وقع على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بتاريخ ١٤ يناير ٢٠٠٥، واتفاقية الاتحاد الأفريقي لمنع و محاربة الفساد، ولكن لم يصادق عليها.

وفي حين أن القانون الجنائي لسنة ١٩٩١م، و قانون عام ١٩٨٩ لمكافحة الثراء الحرام، من القوانين الوطنية التي تجرم بنصوص واضحة التعدي على المال العام، إلا أن المؤسسات العدلية والعاملين فيها، لم تعد لديها الارادة والرغبة لتنقيذ تلك القوانين.

من المهم المصادقة على اتفاقية الامم المتحدة لمحاربة الفساد 2005. إذ تساعد الاتفاقية الدول الاعضاء في الانتفاع من اشكال التعاون الدولي لتعقب ومحاربة الفساد على المستوى العالمي. وفي ظل ضعف امكانيات الدول النامية، فان تلك الاتفاقية تقدم المساعدات والمهارات الفنية، وتعمل على مساعدة مؤسسات الدولة على مكافحة الفساد، كما انها تساعد بشكل فعال في استرجاع الاموال الوطنية المنهوبة.

الحكومات الدكتاتورية لم توقع على اتفاقية مكافحة الفساد، حتى تكون دولة مستقطبة للمفسدين والمطلوبين جنائياً في العالم ليحضروا إلى السودان، ويكونون بعيداً عن المساءلة الجنائية، وتستفيد الطبقة الفاسدة من ابتزاز تلك المجموعات الفاسدة الهاربة من بلدانهم.

1ـ طلبات المساعدة القضائية والانتربول الدولي: متخصص في موضوعات تقديم المساعدات في ملاحقة وتسليم المتهمين في قضايا الفساد، وتساعد في تعقب الفارين والقبض عليهم، وكذا المساعدة في التحقيقات وجمع الادلة من الدول الاعضاء.

وهناك العديد من المؤسسات التنسيقية التي أنشئت بموجب اتفاقيات ومعاهدات. فعلى سبيل المثال انظر كيف تعاطت المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي مع قضايا فساد الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك...
أعلنت المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي تأييدها لقرار مجلس الاتحاد الأوروبي باستمرار تجميد أموال أسرة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. وكان مجلس الاتحاد اتخذ القرار في مارس 2011 وتم تمديد القرار خلال السنوات التالية. وأشارت المحكمة في بيان إلى أنه "حتى بافتراض أن الوضع في مصر تطور بعد 2011 وبطريقة مخالفة للديموقراطية، فإن هذا لا يؤثر على سلطة مجلس الاتحاد الأوروبي وقدرته على تجديد قراره الأصلي بتجميد تلك الأموال". وجمدت سويسرا أموالاً وأصولاً مملوكة لأسرة مبارك وبعض المقربين قيمتها 570 مليون فرنك سويسري (حوالي 603 ملايين دولار) منذ عام 2011.

2ـ المحاكمات الدولية:
إذا ظل القضاء الوطني غير قادر، أو غير راغب في إنفاذ العدالة، فيكون الخيار الدولي دائما هو المتاح. وقد يكون الخيار الدولي تكميلي. ويسقط خيار العدالة الدولية حين تقوم الدولة بالوفاء بمتطلبات العدالة متخذة نظامها العدلي الوطني، وتقوم بتطبيق العدالة باستقلالية تامة، ووفقاً للمعايير الدولية. ولعل تجربة محاكمات انتهاكات انتخابات كينيا، ومحاكمة مقتل الرئيس الحريري، كلها تقف كدلائل على امكانية اقامة العدالة الانتقالية في ظروف أكثر نزاهة واستقلالية وكفاءة. إلا أن اللجوء إلى العدالة الدولية قد يتطلب مجهودات دبلوماسية، حيث أن تلك العدالة تحتاج إلى إجازة قرارات دولية من المؤسسات المعنية بالأمن والسلم الدوليين، مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. كما أن العدالة الانتقالية عبر المؤسسات الدولية، عالية التكلفة.

معرض الصور