``سد النهضة`` ملفات غير قابلة للتأجيل
خالد ماسا
وعلى قِصر الفترة الإنتقالية التي عاشها السودان، وكثرة الزعازِع التي تنازعت أوتادها، إلا أنه لايمكن للعين السياسية أن تُخطيء الإختراق الكبير الذي حدث في ملفات وقضايا كانت تزداد في التعقيد بسبب العقل المُفكِر للنظام الحاكم، لمدة قاربت الثلاثة عقود، وكيف أن هذا العقل كان قد أدخل السودان في سلسلة أنفاق صُعب الخروج منها دون تكاليف، تحمّل عبئها الشعب السوداني وأخرته عن اللحاق بركب الدول.
عقود ظل السودان فيها في حالة حرب مع المجتمع الدولي، بسبب أو بدونه، أدخلته في حالة القطيعة مع دول الجوار، وعزلته تماما عن كل منصات منظمات المجتمع الدولي، وأدرجت إسمه في قوائم الدول الداعمه للإرهاب، وفرضت عليه حصار إقتصادي عطل عجلات التطور والتنمية.
تقدم السودان خطوات إبان الفترة الإنتقالية على صعيد ملفات لم يكن السبيل لمناقشتها بما يخدم السودان مستطاعاً، فخرج السودان من القائمة السوداء لداعمي الإرهاب، وإستعاد صوته ومكانته في منصات المجتمع الدولي، وأنزل من على أكتاف إقتصاده عبء الديون، ودخل لمفاوضات "سد النهضة" بلياقة الند للند مع أثيوبيا المنبع، ومصر المصب، مًقدماً الشرط الوطني في التفاوض على التلاعُب على حبل تناقضات السياسة في الإقليم.
وعلى غير عادة المناقشات في ملف "سد النهضة" إستضافت الخرطوم جولات من مناقشات الملف المهم، ووصلت فيه الى حد تصريح وزير الري في حكومة الإنتقال وقتها بالقول بأن الإتفاق بين الدول المعنيه بالملف قد وصل الى نسبة 95% كنتاج طبيعي لسياسات أوقات السِلم.
جاءت أوقات الحرب في السودان في أبريل ولايمكننا بأي حال من الأحوال أن نستبعد فرضية إختلاط ماء "سد النهضة" بزيت الحرب في السودان، وأن المواقف الأقليمية من هذه الحرب ظلت تتحسس ملف السد كلما نظرت الى تطورات الحرب المشتعله في السودان.
تسلل خبر إستئناف جولات مفاوضات "سد النهضة" بين السودان ومصر وأثيوبيا من بين أخبار الحرب، ودفع بالسؤال عن أولوية هذا الملف الذي لم تجعل منه الحرب ملفاً غير قابل للتأجيل، وسط إتهامات متبادلة وإشارات بالإصطفاف الى جانب طرفي الحرب الجيش وقوات الدعم السريع.
أثيوبيا "الاتحاد الافريقي" لم تُمسِك لسانها عليها، وأطلق رئيس وزرائها تصريحات تململت منها الحكومة السودانية، وإعتبرتها بمثابة إعلان حرب. ومصر "السيسي" تعلم بأن ملف سد النهضة هو ليس ملفا "إنتخابيا" فقط بل هو ملف يمس وجود الدولة المصرية ويهدد أمنها.
جاء أوان الحرب، ورأت أثيوبيا بأنها غير مُلزمة بالتخلي عن موقفها المتشدد والإحادي بالمضي قُدُماً في إكمال الملء للسد، والتصريح بوصول نسبة التشييد في بناء جسم السد الى 90% بينما سافر الوفد الحكومي السوداني لجلسة التفاوض الآخيرة بجسده فقط تاركا تفكيره وعقله في بورتسودان المقر الإحتياطي للحكومة، فكان من الطبيعي أن تفشل جولة التفاوض.
لم يعد النقاش موضوعياً حول بناء السد من عدمه، فالواقع يقول بأن دولة المنبع فرضته كواقع ماثل بالتشييد، وإكمال مراحل الملء وتعبئة بحيرة السد مثني وثلاث ورباع. وصرح كبير المفاوضين الأثيوبيين بأن دولته ليست بحاجة لأذن من أحد لإكمال ملء السد. وصار السقف التفاوضي بمناقشة الجوانب الفنية والقانونية عبء على مصر دولة المصب لأن السودان مشغول بحربه التي إستمرت لشهور.
في الوقت الحالي قد لايرى الجانب السوداني في مناقشة هذا الملف أي أولوية يمكن منحها جزءا من إهتمام الدولة المتوجهة بكلياته ناحية الحرب، وهنا تكمن خطورة تأثيرات الحرب على ملف سد النهضة. لأن الأهمية لدولتي الممر والمصب مصر والسودان تأتي في مناقشة الجوانب الفنية كتعريف "فترات الجفاف"، وحجم المياه التي تنوي أثيوبيا إحتجازها في بحيرة السد في المرحلتين الرابعة والخامسة، والجوانب القانونية التي تحكم حقوق كل دولة ذات علاقة بالملف.
في الجانب المصري يبدو أن التفكير في الحرب ليس بعيداً عن هذا الملف، ومتى ماتم فتح ملف سد النهضة إلا وإستدعي العقل المصري المفاوض عبارة الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات التي قالها عقابيل توقيع إتفاقية السلام مع إسرائيل وجاء فيها "الشيء الوحيد الذي قد يضطر مصر للحرب في المرحلة القادمة ليس السياسة وإنما المياه ".
فكرة "الفقر المائي" التي تصيب العالم بالذعر، تجعل من مناقشات ملف سد النهضة حتى في أوان الحرب، مناقشات ذات أولوية قصوى، وينبغي الدخول اليها بذهن مفتوح، وألايسمح لأي جهة باستغلال ظرف الاضطراب الذي يمر به السودان لفرض الأمر الواقع. والمصلحة الوطنية تتطلب تعظيم الفائدة من إنشاء السد لبلد يعاني من ضعف مصادر الطاقة، وتناقص المساحات الصالحة للزراعة. والتفاوض هو السبيل الوحيد لصيانة حق الاطراف الثلاثة في مياه النيل دون أن يصبح هذا الملف سبباً في تعكير مزاج هذه الاطراف والإقليم الذي يعاني أصلاً من الإضطراب.
سد النهضة ملف "فني" و"قانوني"، ويجب أن يمضي اليه الوفد السوداني المفاوض بهذه الأهلية بعيداً عن أجواء السياسة والحرب مع الوضع في الاعتبار أن عامل الزمن يلعب دوراً مهماً في مناقشات هذا الملف، وأي تأخير في ذلك بسبب الحرب أوبدونها ستكمل أثيوبيا ماتبقى من بناء جسم السد، وتكمل مراحل الملء التي بدأتها، ومناقشات الأمر الواقع عادة لا تُفضي الى حلول.