عود وردي
محمد عبد الماجد
نحنُ جيلٌ، فخورون إنّنا قُمنا على أغنيات الفنان محمد وردي. اتقرحنا بيها واتّعتعنا معها. نقوم ونقع بيها، وعليها كُنّا نتوكّأ ونضمد جراحنا. اتعلّمنا بيها الكلام والتأتأة، وخرطنا بيها (البلي)، وجرّينا بيها الخمسين، ورمينا غيرها (بايظ). شخبطنا مقاطعها في الحيط، وكتبنا أسماءها في الأبواب، (وفي لحى الأشجار كتبتو)، وعملناها (حالات) لعواطفنا قبل أن نعملها لتلفوناتنا وصفحاتنا (دا العمر زادت غلاوتو معاك وصالحني الزمان يا أحن الناس حنان).
نحن جيلٌ قُمنا على أغنيات وردي ليس في مجال الأغنيات العاطفية وحدها، بل في مجال الأغنيات الوطنية والثورية أيضاً. استقلال السودان عرفناه في البدء من خلال نشيد الاستقلال الذي كتبه الشاعر عبد الواحد عبد الله وتغنّى به وردي. كان الأول من يناير عيداً بالنسبة لنا ونحن أطفالٌ. لم نفهم معنى الاستقلال بعد، والإذاعة تبث عبر أثيرها في ذلك اليوم، صوت وردي وهو يترنّم بـ (اليوم نرفع راية استقلالنا). كان هذا المقطع نحس بفرحه في عيون أبّهاتنا، ونبدو في حَالةٍ من الفخر ونحنُ نلعب في الحوش. لم نكن نلبس جديداً، ولا نُوزِّع حلوى، ولا ننتظر اللحمة، ولكن كُنّا ننتشي حَدّ الذهول بهذا النشيد:
ولـيذكر التاريخ أبطالاً لنا
عبد اللطيف وصحبه، غرسـو الـنواة الطاهرة
ونفوسهم فاضت حماساً كالبحار الزاخرة
مـن أجلنا سادوا المنون، ولمثل هذا اليوم كانوا يعملون....
من المُفارقات المُحزنة أنّ شاعر هذا النشيد عبد الواحد عبد الله يوسف انتقل إلى الرفيق الأعلى الأسبوع الأول من شهر مايو الماضي، أي بعد اشتعال الحرب بأيامٍ قليلة. الأكيد أنّ قلبه المُرهف لم يحتمل أن يرى وطنه يفقد إستقلاله من جديد.
نحنُ من الأجيال التي أحبّت بـ (خلاص كِبرْتي وليك تسعتاشر سنة)، طنفرنا إلى هذه السن بتلك الأغنية (بناديها). شلنا الشوق في (كدا أسأل قلبك عن حالي، أسألو، تنبيك عن سؤالك أشواقي، أسألو). عرفنا الخوف من (خوفي منك، خوفي تنساني وتنسى الليالي). واطعمنا بـ (الحزن القديم)، كُنّا نتخاصم بـ (بعد أيه)، و(حلفتك يا قلبي، حلفتك بي ربي، خليهو الغرام، اتنكّر لي حبك وريهو الخصام، ليه تتهان يا غالي، ليه والذل حرام). إسماعيل حسن كان يمثل عندنا مُفترق طرق عاطفي مُهم في حياتنا، وكنا رغم تلك القناعات لا نصمد كثيراً نعود بـ (رحلت وجيت، في بُعدك لقيت كل الأرض منفى). كل الأرض منفى.
الدوش قرحنا بـ (الدهشة)، وصديق مدثر بـ (الحبيب العائد)، وكجراي بـ (ما في داعي). التجاني سعيد خَتَمَ بالعودة والإياب على كل جوازات السفر السودانية بـ (في بعدك لقيت كل الارض منفى). عشنا الغربة في (ﻏﺮﻳﺐ، ﻭﺣﻴﺪ ﻓﻲ ﻏﺮﺑﺘﻮ، ﺣﻴﺮﺍﻥ ﻳﻜﻔﻜﻒ ﺩﻣﻌﺘﻮ، ﺣﺰﻧﺎﻥ ﻳﻐﺎﻟﺐ ﻟﻮﻋﺘﻮ ﻭﻳﺘﻤﻨﻰ ﺑﺲ ﻟﻲ ﺃﻭﺑﺘﻮ). وهل لنا في هذا المقام غير صلاح أحمد إبراهيم؟
نحن من الأجيال التي شاهدت علومية العروس بـ (القمر بوبا) والقديمة قديمة حمام! وعاشت حقيقة (وعنك بعيداً أبيت الرحيل، وبيك اعتزاز الصباح الجميل) و(معاك انتظاري ولو بالكفاف).. ولو بالكفاف.
محجوب شريف كنا نواجه بكلماته الصعاب. الدكتور مبارك بشير في عرس الفداء كَحّلَ مُقلنا بهذه الكلمات:
نذكر الآن جميع الشهداء،
كل من خَطّ على التاريخ سطراً بالدماء.
نذكر الآن جميع الشرفاء، كل من صاح بوجه الظلم لا لا..
نحن أبناؤك في الحُـزن النبيل.
ونغني لك يا وطني كما غنى الخليل.. مثلما غنت مهيرة تلهب الفرسان جيلاً بعد جيل.
ونغني لحريق المكي في قلب الدخيل.. للجسارة حينما استشهد في مدفعه عبد الفضيل.
كتبنا أغنيات وردي في (كراسات المدارس)، وحفظنا أناشيده أكثر من (جداول الضرب)، وكان صديقي أيمن يقول إنّ الذي ينتقد وردي أمامي كأنه كان يقول لي: ألعن أبوك. القهوة شربناها بـ (لو بهمسة) لو كانت مظبوطة، وبـ (الحِنينة السُّكّرة) لمن تكون سُكّر زيادة. الشاي باللبن شربناه بـ (أقابلك) والسادة بـ (عذّبني وزيد عذابي يمكن قلبي يقسى).
مرة كتبت أنّ شهادة ميلادنا بتطلع بـ (عمق إحساسك بي حريتك، يبقى ملامح في ذريتك). في أرقامنا الوطنية (أحبك بتضحك وأحبك عبوس). عسلية عيونا بتخرج من (بنحب من بلدنا ما برّه البلد). وسمرة لونا بتمرق من (الليلة يا سمرة يا سمارة الليلة يا سمرة). وردي بكل هذا الأثر والإرث، لا نقبل فيه شيئاً، هو شكّل كل مراحل حياتنا، وذكرياتنا وحاضرنا الجميل.
الزميل خالد فتحي عبر موقع "العربية نت"، كتب تقريراً قدّم فيه المأساة الأخرى للحرب. جاء في ذلك التقرير (انشغلت أطيافٌ واسعةٌ من السُّودانيين في مواقع التواصل الاجتماعي الواسعة الانتشار، طيلة الساعات الماضية، بتداول صور وتفاصيل قصة مُحزنة لنهب عُـود الفنان والموسيقار السوداني ذائع الصيت محمد وردي، الشهير بفنان أفريقيا الأول، مع ظهور مؤشرات قوية لتعرض إرثه الفني بالكامل للنهب والسرقة والتخريب. تلك التفاصيل المُحزنة شغلت مواقع التواصل الاجتماعي، لتحصد تفاعلاً كبيراً).
ونحن نقول: عندما أدخل الفنان محمد وردي لسجن كوبر بعد انقلاب هاشم العطا في 19 يوليو 1971م، طلب من إدارة السجن أن يحضروا له (عوده) الذي يلحن ويتغنى به، فرفضوا، معللين بأنهم لم يعتقلوه وهو على ظهر دبابة، وإنما اعتقلوه بسبب هذا (العود). هذا (العود) الذي كان سبباً في دخول وردي للمعتقلات. كتب عنه خالد فتحي في تقريره على لسان الموسيقار عبد الوهاب محمد عثمان ابن الفنان محمد وردي الآتي: (وقال عبد الوهاب وردي نجل الفنان الراحل إنّ أحد الأصدقاء شاهد أحد جنود الدعم السريع يحمل العود الثمين بعد سرقته من منزل وردي بحي المعمورة بالخرطوم، وعلى الفور عرض الصديق المذكور على اللص شراء العود فوافق، بعدها أرسل الصديق صورة العود إلى عبد الوهاب الذي أرسلها بدوره إلى أخيه منتصر وردي، الذي أكد له أن العود يخص والدهم الموسيقار محمد وردي. عبد الوهاب كشف تفاصيل تلك الحكاية الحزينة عبر منشور على صفحته بفيسبوك مصحوبا بصورة العود بين يدي والده، مؤكداً في ذات المنشور بأنّ كل الدلائل تُشير إلى تعرض منزل والده للسرقة بالكامل، وأن إرثه الفني الذي لا يقدر بثمن، والذي يُعد تراثاً قومياً وإنسانياً عالمياً "أضحى في خبر كان". كلمات عبد الوهاب وردي المؤثرة، أشعلت مواقع التواصل بالسودان، كما حصدت تفاعلاً كبيراً).
خطورة الحرب الحقيقية تتجسّد في إتلاف وإزالة هذا الإرث بقصد أو دون قصد، خاصةً أنّ مليشيات الدعم السريع تتواجد في مباني الإذاعة السودانية التي تحتفظ بصوت السودان وتاريخه. وتتواجد كذلك في مبنى تلفزيون السودان (صورة) السودان، إلى جانب تواجدها في مناطق أثرية مختلفة في السودان. وقد جاء في التقرير (مُستخدمو التواصل بالسودان، تناقلوا كذلك مقطع فيديو لجندي تابع للدعم السريع وهو يرسل عبارات التهديد والوعيد من داخل معبد الأسد الأثري الشهير بمنطقة النقعة).
لذلك نقول : لا للحرب. وقد تضرّر من تلك الحرب، المتحف القومي والمسرح القومي بأم درمان، ودار الوثائق السودانية. كل قيمنا وإرثنا تتعرّض للدمار بسبب هذه الحرب. إنّنا من هذه الحرب لم نعد نخشى على حاضرنا ومُستقبلنا بقدر ما نخشى على تاريخ السودان وإرثه العظيم!
من المُفارقات العجيبة أنّ قوات الدعم السريع تتواجد أيضاً في دار الرياضة أم درمان، وفي إستاد الهلال وإستاد المريخ، وليس في الأمر عجب إذا كانت هذه القوات تتواجد أيضاً في بيوت الناس، وفي الأسواق والمستشفيات! نحن. هنا لا نلوم قوات الدعم السريع وحدها، وانما نلوم الذي أتى بهم والذي حرض على هذه الحرب. نلوم الجيش لأنه مكنهم من ذلك، وخسر الحرب وخسر السلام ايضا.
ليس المشكلة في تدمير جسر شمبات، أو حرق برج الساحل والصحراء، أو حرق مصفاة الجيلي، أو ضرب خزان جبل أولياء. المشكلة في حرق الوجدان السوداني وتدمير إرث وتاريخ السودان.
انظروا إلى هذه الأشياء، واعلموا أنّ الحرب تضرب في أعز ما نملك. إنّها تضرب في الوجدان السوداني، فنحنُ حاضرنا قد يكون فيه الكثير من التشوُّهات والمشاكل، ولكن ماضينا فيه كل الروائع والجمال. ماضٍ راسخ وثابت، نتشرّف به وترتفع جباهنا بفضله.
(عود) وردي الذي لحن به (لو بهمسة) و(خاف من الله) و(الود) و(الحزن القديم) و(بناديها) و(بقابلك) و(يا أعز الناس) و(يا ناسينا)، يمثل عندنا الوجدان الإبداعي للسودان. (عود) وردي هو وجدان الشعب السوداني.
…..
متاريس
سوف نعود لاحقاً لنُعلِّق على الأحداث التي تمر سريعاً.
ما كان لنا أن نتجاوز عود وردي.
سنعود من جديد.
..
ترس أخير: (عود) لحن به وردي، لعمر الطيب الدوش، ومحجوب شريف، ومحمد المكي إبراهيم، والفيتوري، وصلاح أحمد إبراهيم، ومبارك بشير، وإسماعيل حسن، وإسحاق الحلنقي، وأبو قطاطي، وصديق مدثر، والتجاني سعيد، ما كان له أن ينكسر.