بناء السلام في إفريقيا.. نيجيريا مثالاً
باسم ثروت
جرت العادة في المدارس الإفريقية والشرق أوسطية عند الحديث عن إفريقيا تذكر بأنها قارة ملئه بخيرات الخالق، وهذه هي الحقيقة، فهذه القارة تزخر بعوامل النجاح والاستقرار، بدءاً بأعداد السكان الآخذة في الزيادة وصولاً لأعداد الشباب المتعلم بنحو متزايد الذين يصلحون كيدٍ عاملة، فضلاً عن سوق تجاري ضخم وبيئة خصبة للاستثمارات، أغلب الظن هنا أنه حان الوقت حتى يتحمل الأفارقة المسؤولية عن شؤون القارة والمضي بها قدماً نحو السلام والاستقرار.
فمنذ استقلال الدول الإفريقية شهدت القارة السمراء العديد والعديد من النزاعات والصراعات والتناحر، لا سيما في العقد الماضي منذ أن اجتاحت موجات الإسلام المتشدد والمتطرف الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومنها إلى قلب القارة السمراء، فأضحت بؤرة لخطابات الكراهية ومرتعاً للجماعات الإرهابية وموجات الانقلابات العسكرية المتجددة والانفلات الأمني، فضلاً عن تجارة الممنوعات والهجرة غير الشرعية.
نُبذة عن النزاعات والصراعات في نيجيريا
تماشياً مع ما تم ذكره، نستعرض نُبذة عن حالة الصراع في نيجيريا في ظل وجود أكثر من 250 جماعة إثنية متعددة الديانات واللغات.
عانت منذ استقلالها من مشكلة الاندماج الوطني حيث تعلو الولاءات ما دون الوطنية (الإثنية والدينية والإقليمية) على الولاء الوطني، كما ارتبطت هذه المشكلة خلال السنوات الأخيرة بظاهرة الإحياء والصحوة الدينية التي تشهدها مناطق مختلفة في العالم والتي جعلت اللجوء إلى “الدين” يمثل ملجأ أساسيا للكثيرين لمواجهة العديد من التحديات على المستويات الفردية والجماعية.
ففي أواخر العقد الأول من الألفية، قتل في نيجيريا عشرات الآلاف من المسيحيين والمسلمين في نزاعاتٍ عنيفة، تأثرت ولاية بلاتو النيجيرية على وجه الخصوص وفي يلوا نشار، ومنطقة شندام التابعة للحكومة المحلية قتل حوالي 100 شخص في شهر واحد فقط، مما عمل على تأجيج الأعمال الانتقامية.
وعلى مدار العقد الماضي، عانت نيجيريا من مواجهة تداعيات انتشار وازدهار جماعة بوكو حرام الإرهابية، التي ظهرت في عام 2009. ومنذ ذلك التاريخ، تسببت الأنشطة الإرهابية للجماعة في مقتل وتشريد الآلاف من سكان شمال نيجيريا.
وعلى الرغم من تراجع الجماعة في أعقاب الهزائم التي لحقت بها في موجهة القوات المتعددة الجنسيات التي تشكلت من دول بحيرة تشاد وبنين في عام 2015، إلا أن الدولة النيجيرية تحملت الجزء الأكبر من تداعيات الانتشار الواسع للجماعة حرام في الساحل وغرب إفريقيا.
لم تكد الدولة النيجيرية تتنفس الصعداء حتى نشب صراع من نوع آخر عام 2018، أسفرت نتائجه عن مقتل أضعاف من قُتلوا في عمليات الإرهاب، وهو الصراع على الموارد الذي حمل ملامح طائفية.
كشف تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في دراسة جديدة عن الحرب وتأثيرها على سبل الرزق، أن الصراعات في نيجيريا أدت لمقتل ما يقرب من 350 ألفاً حتى نهاية 2020، وفي هذا الإطار أشار التقرير إلى أنه في حال استمر الصراع حتى 2030، فقد يموت أكثر من 1.1 مليون شخص.
تُرى هل مواجهة العنف بالمزيد من العنف بأنواعه العسكري والأيديولوجي والديني هو السبيل إلى حل الإشكاليات؟ هذا السؤال ينطبق على كل القارة وليس الحالة النيجيرية فقط، لذلك سننتهج خُطى منظري بناء السلام قليلاً لنرى كيفية بناء السلام في إفريقيا ونيجيريا على وجه الخصوص.
خطى بناء السلام
قبل الشروع في ديناميكيات بناء السلام، نستعرض في عجالة ما هو بناء السلام من خلال قصة قصيرة، يطلق عليها موقع البناء.
يُحكي أن سيدة في طريق عودتها من العمل صادفت موقع بناء يعمل به ثلاثة عمال، أثار هذا المشهد فضول السيدة فاتجهت للعامل الأول وسألته: ماذا تفعل هنا؟ كانت إجابة العامل أنا هنا لتكسير الحجارة. فأكملت السيدة مسيرها في موقع البناء وصادفت عاملاً ثانياً وسألته: ماذا تفعل هنا؟ أجابها بأني هنا من أجل لقمة العيش. أكملت مسيرتها من جديد وطرحت السؤال نفسه على العامل الثالث، فأجابها بأني أبني مسجداً.
تساعدنا إجابات العمال الثلاثة على فهم عملية بناء السلام، ففي بعض الأحيان نكتفي فقط بتكسير الأحجار وبذلك يكون التركيز على المهمة الفورية فقط، وهو عمل صعب، وفى أوقات أخرى، يكون اهتمامنا كسب لقمة العيش وهو عنصر مهم لحياتنا ولعائلاتنا.
وأحيانا ندرك أن عملنا وخطواتنا الصغير هي جزء من رؤية أكبر تشتمل على أعمال وأبعاد أكبر، فتكسير الأحجار مثلاً يشكل جزءاً من بناء مسجد كبير.. وبناء على ذلك فأية جهود للسلام حتى ولو كانت صغيرة قد تصبح جزءاً من عمل أكبر قد يضحي في النهاية إنجازاً كبيراً.
كما أن معرفة دوافع الأطراف المعنية بالصراع وخلفياتهم يسهل عملية بناء السلام.
بناء السلام متى وكيف؟
إن الصراعات والنزاعات ليست ثابتة، إنها تتغير مع مرور الزمن والعوامل المشكلة لها، فأحياناً تزداد حدة وأحيانا أخرى تتضاءل وتخف حدتها. وفي كل مرحلة من مراحلها تظهر فرص لأداء أنواع معينة من أعمال بناء السلام، فقد قسم منظرو بناء السلام مراحله إلى خمس مراحل، وهي كما يلي:
المرحلة الأولى:
مرحلة إشعال النار (النزاع أو الصراع): وفي هذه المرحلة يتأرجح الوضع ما بين السكون الظاهر والسطحي واختبار التوترات الاجتماعية المهمة. ففي المناطق التي تبدو عرضة للنزاع العنيف كالشمال النيجيري نرى أن الأفراد يعملون بجهد لتحقيق تغير اجتماعي.
ويتمثل أول نشاطات هذه المرحلة في خفض مستوى التصعيد والإجحاف بين المجموعات والأطراف على مختلف المستويات من القادة الوطنيين إلى أعضاء المجتمع المحلي وصولاً للأطفال في المدارس، والتركيز على خفض نسب التصعيد والمواقف السلبية المتخذة ضد المجموعات الإثنية، أو الدينية، أو السياسية، أو غيرها من المجموعات، ويعتبر خفض حدة التصعيد أحد أشكال التصدي للنزاع العنيف لأنه يهدئ من التوترات في المجتمعات ويشجع الأفراد على تقبل الغير باختلافاتهم.
المرحلة الثانية، الحد من الاشتعال وإبعاد المواد المشتعلة حتى لا ينتشر اللهب:
قد يتسنى لأولئك الذين يسعون لأحداث تغير اجتماعي الفرصة التي ينتظرونها لتبديل هيكلة السلطة أو النظام السياسي من خلال انقلاب عسكري أو إشعال الرأي العام أو غيرها من الطرق.
وهنا لا بد للجوء للدفاع غير العنيف، ومن الممكن تركيز جهود الدفاع غير العنيف في بلد معين أو منطقة معينة، فعلى سبيل المثال تركزت جهود منع البلدان من إنتاج الألغام الأرضية في البدء في بلدان معينة ثم أصبحت حركة دولية وتم حظر الألغام الأرضية المضادة للأفراد وفقاً لمعاهدة دولية وقعت في عام 1997.
من أمثلة أنشطة الدفاع غير العنيف، التدريب على حقوق الإنسان وأنشطة بناء السلام، كما أن مشاريع التطوير الزراعي والاقتصادي قد تكون جزءاً من نشاطات بناء السلام لأنها مهمة للمساعدة على توفير موارد العيش وبناء بنى تحتية بديلة لمجتمعات أكثر عدلاً، فضلاً عن ذلك تأمين وسائل الإعلام ودعم الجرائد والصحف الإخبارية والتي تنشر رسائل السلام وإقامة منتديات للحوار.
المرحلة الثالثة، الحد من الأضرار:
في حال ساد العنف وهي المرحلة التي تقبع فيها نيجيريا منذ عقود، وهنا تكون إحدى خطوات بناء السلام هي عمليات حفظ السلام التي تقتضي إدخال القوات العسكرية الحكومية تحت لواء الأمم المتحدة أو الاتحاد الإفريقي أو المنظمات المعنية بشؤون المنطقة لتفرقة الأطراف المتقاتلة، وقد يؤدي هذه التدخل إلى تهدئة التصعيد ومنح المجموعات المتقاتلة بعض المساحات حتى تنطلق المفاوضات السياسية.
لكن للأسف في بعض الأحيان يتقاعس المجتمع الدولي عن الضلوع بدوره في عمليات تهدئة الصراعات وحفظ السلام من خلال غض البصر حفاظاً على مصالح القوى الدولية في مناطق الصراعات.
علاوة على ذلك فإن ممارسة الضغوطات بشكل فعال على قادة الأطراف ليوقفوا العنف هو أحد أهم الوسائل ويمكن ممارسة هذا النوع من خارج الدولة أو من داخلها كفرض عقوبات اقتصادية أو عقوبات على أفراد بعينهم.
المرحلة الرابعة، تبريد الجمر:
تهدأ فيها حدة العنف وقد تظهر فيها إرهاصات انبعاث العنف من جديد، بين ذاك وتلك توجد فرصة لإعادة توجيه الأطراف باتجاه طرق التغيير، فمن الممكن البدء في مشاريع التطوير الاقتصادي التي بدورها تسهم في ربط الأشخاص متخطية النزاعات التي تفرقهم، وإذا تم ربطها بعملية إعادة البني التحتية التي يطالب بها الأطراف كافة ستوصلنا هذه النشاطات إلى نوع من أنواع السلام الهش الذي يمكننا البناء عليه في المرحلة القادمة.
علاوة على ذلك، تفعيل دور وسائل الإعلام والتواصل وتطوير وسائل أخرى بغية تشارك ونشر قصص إيجابية أو فرص إحلال السلام وإظهار تقدم لاتجاه السلام والحفاظ على الأمل بتحقيق السلام في النهاية.
وبعد ذلك نجد أنفسنا أمام أحد أخطر الخطوات/ الأنشطة، وهي تسريح الجنود أو المرتزقة أو الجماعات المسلحة وتجريدهم من السلاح طوعية، لكن لا تقتصر هذه الخطوة على تجريد السلاح فقط إنما تقديم المساعدة لهم في إيجاد وظيفة أو عمل مناسب يعود عليهم بدخل يكفيهم للعيش، فإن القارة السمراء تعج بمن يمتهنون حمل السلاح كوسيلة لكسب العيش، وإعادة إدماجهم مرة أخرى في نسيج المجتمع والهيكل الإداري للدولة.
المرحلة الخامسة، ما بعد الصراع:
إن بناء السلام يستغرق سنوات طويلة أكثر من السنوات التي استغرقها نشوب الصراع نفسه، وهنا تكون الحاجة إلى إعادة التوطين وبناء المنازل والمزارع والمباني وخدمات البني التحتية كالمياه والكهرباء، قد ذكرنا هذه النشاطات في مراحل سابقة إلا أن مرحلة ما بعد النزاع تتسم بالمزيد من الاستقرار ما يسهل إكمال الأعمال.
علاوة على بناء البني التحتية والمشروعات الاقتصادية يجب أن يتم بناء العلاقات التي تساعد على شفاء المجتمع من خلال دمج الأشخاص بطريقة تمكنهم من تخطي الصراعات التي تفرقهم، وهنا تكون الحاجة للدعم النفس والاجتماعي والمصالحة كبيرة.
خلاصة القول: القارة الإفريقية قارة التنوع والتعدد في عالم الأشياء والأفكار والمعتقدات على حد سواء، وتكاد تكون تلك سمة مشتركة بين دول القارة، إذ تتميز المجتمعات الإفريقية بالتنوع الإثني والديني والعرقي، فإذا كانت مجتمعات في دول أخرى نجحت في إدارة التنوع وجعلت منه نقطة قوة وثراء، فإن الدول الإفريقية في أغلبها تعاني من نزاعات إثنية أثرت على مسار التنمية وتكاد تعصف بالدولة ذاتها.
لذلك لا بد أن تزرع الدول الإفريقية قيم السلام والمؤاخاة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان وتقدير الاختلاف حتى لا تتخطي أي نزاعات المرحلة الأولى (الإشعال)، أو الثانية.
علاوة على ذلك، يجب تطوير وسائل التعليم وتضمين مناهج الحوار داخل منظومة التعليم الإفريقي، كما يجب تضمين طريقة يتغير فيها ترتيب الولاءات فيأتي الولاء الوطني قبل الديني، العرقي، والإثني وتعزيز الحوار ما بين الأديان في حالة نيجيريا وبخاصة بين الجماعات الشمالية المسلمة والجماعات الجنوبية المسحية والوثنية.
فإذا اتُبعت هذه الخطوات في معظم حالات النزاع في إفريقيا باختلاف أطرافها وعواملها وطرق تنفيذها قد نصل يوماً ما للسلام المنشود.
المصدر: جسور بوست