العدالة والمصالحة التقليديتان بعد الصراعات العنيفة.. التعلم من التجارب الأفريقية 2-5
لوك هويسه
1.1 مناظرة مستمرة
في النقاش العام المستمر حول العدالة الانتقالية، ينقسم الزعماء السياسيون وأعضاء المجتمع المدني والأكاديميون حول عدد كبير من النقاط. وتتمثل المسألة الأكثر إثارة للانقسام، في كيفية تحقيق التوازن بين المطالب بتحقيق العدالة من جهة والقيود السياسية العديدة من جهة أخرى.
أولئك الذين يؤكدون على الآثار المفيدة للملاحقة القضائية يقدمون مجموعتين من الحجج. إحدى هذه الحجج تتعلق بالضحايا؛ حيث إن مجتمع ما بعد الصراع يترتب عليه التزام أخلاقي بملاحقة المرتكبين قضائياً ومعاقبتهم، لأن القصاص هو بالتحديد ما يريده معظم الضحايا. يسهم ذلك في بلسمة جراحهم واستعادة ثقتهم بأنفسهم، لأنه يشكل إقراراً علنياً بشأن مَن كان على حق ومن كان على خطأ. ومن هنا، فإن ذلك يبرئ الضحايا من أي أوصاف تتعلق بـ ‹الإجرام› كانت قد ألصقت بهم من قبل سلطات الماضي، أو من قبل مجموعات المتمردين أو النخب الجديدة. وتقول هذه الحجة، بأن المحاكمات وحدها هي التي تؤدي إلى الاعتراف الكامل بقيمة وكرامة ضحايا الانتهاكات التي حدثت في الماضي.
السؤال الأكثر إثارة للانقسام يتعلق بكيفية تحقيق التوازن بين مطالب العدالة والقيود السياسية العديدة.
يعتمد بقاء نظام حديث التأسيس على اتخاذ إجراءات قضائية سريعة وحاسمة ضد أولئك الذين كانوا مسؤولين عن أكثر انتهاكات حقوق الإنسان خطورة. كما أن الإجراءات الجنائية ضد مرتكبي جرائم الحرب، والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية بات اليوم واجباً بموجب القانون الدولي.
مجموعة ثانية من الحجج تتعلق بترسيخ السلام والاستقرار السياسي والمحافظة عليهما. يقال إن الملاحقات القضائية تؤدي الى تجنب عمليات الانتقام الشخصية التي لا ضابط لها. ما لم يتحقق ذلك، فسيشعر الضحايا بإغراء الاقتصاص وتحقيق العدالة لأنفسهم. عندها، تصبح هناك مخاطرة في نشوء مجموعات معينة تعطي لنفسها الحق في تطبيق العدالة، وحالات إعدام خارج إطار القانون وتصاعد أعمال العنف. إضافة الى ذلك، فإن مثل هذه ‹العدالة الذاتية› يمكن أن تتسبب في حدوث اضطرابات سياسية واجتماعية. كما أن المحاكمات توفر حماية من عودة أولئك الذين كانوا السبب في مآسي الحرب والقمع. إن بقاء نظام تأسس حديثاً، يعتمد على إجراءات قضائية سريعة وحازمة ضد المسؤولين عن أكثر انتهاكات حقوق الإنسان خطورة. يُعتقد أن ذلك يوفر حماية ضرورية من التخريب ‹من الداخل›، ويعد وسيلة لتحقيق الحد الأدنى من الأمن الشخصي. إضافة الى ذلك، فإن المحاكم الجنائية ترسخ مبدأ المساءلة الفردية. وهذا أمر جوهري في القضاء على التصور الخطير بأن مجموعة كاملة )على سبيل المثال ‹الهوتو›، ‹التوتسي›( مسؤولة عن العنف وارتكاب الأعمال الوحشية. في كثير من الأحيان تكون فكرة الذنب الجماعي مصدراً للتنميط السلبي، الذي يمكن أن يؤدي بدوره الى المزيد من العنف. كما يعتقد أن الملاحقات القضائية تشكل أقوى رادع ممكن ضد حدوث انتهاكات مستقبلية لحقوق الإنسان، والضمانة الأكثر فعالية ضد استمرار العنف والأعمال الوحشية. ويمكن أن تنجح في كسر الحلقة المفرغة للإفلات من العقاب والتي تؤدي الى المظالم في العديد من أنحاء العالم. وأخيراً، تعد الإجراءات الجزائية ضد مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية واجباً بموجب القانون الدولي.
من ناحية أخرى، فإن البعض يشكك بما إذا كان العقاب المباشر هو الرد السليم في أي سياق وفي كل سياق .إن نهاية حرب أهلية أو فترة من القمع العنيف، تؤدي الى نشوء أجندة معقدة تتمثل في إعادة بناء الآليات والأجهزة السياسية والخدمة المدنية، ضمان حد أدنى من الأمن الشخصي، نزع سلاح الحركات المتمردة ،إعادة تنظيم الجيش، إعادة بناء البنية التحتية، إعادة بناء الاقتصاد، تحقيق الاستقرار للعملة، تأسيس جهاز قضائي غير متحزب ، تنظيم الانتخابات، معالجة الضحايا، وإصلاح الأضرار التي لحقت بهم وما الى ذلك. قد يكون التعامل مع المرتكبين، وربما بوسائل الملاحقة الجزائية، واحداً من عدد كبير من التحديات .في معظم الأحيان سيكون من المستحيل معالجة جميع هذه المهام في الوقت نفسه، وبالتالي ينبغي الاختيار من بينها. يقال إن مكان العدالة بشكل عام، والمحاكمات بشكل خاص، في أجندة ما بعد الصراع يعتمد على العلاقة الخاصة بين القوى السياسية والثقافية والتاريخية. قد يكون هناك مشاكل واحتياجات أكثر أهمية و/أو أكثر إلحاحاً من السعي لتحقيق العدالة من خلال المحاكمات.
مراقبون آخرون يشككون بما إذا كانت العقوبة هي الرد المناسب في أي سياق وفي كل سياق .
يمكن للملاحقات القضائية أن تحدث آثاراً خطيرة تقوض استقرار اتفاقية سلام أو تحولا هشاً نحو الديمقراطية، كما أنها تنطوي على القيوًد بطبيعتها. قد تتعارض مع الثقافة القانونية لمجتمع ما بعد الصراع.
إضافة الى ذلك، فإن الملاحقات القضائية تكون متفاوتة في سياقات انتقالية معينة يمكن أن تؤدي الى آثار تزعزع استقرار تسوية سلمية أو تحول هش نحو الديمقراطية. في الواقع، وبالتحديد ومن أجل تحاشي مثل هذه النتيجة، فإن صناع السياسات في أميركا اللاتينية اختاروا عدم اللجوء الى الماكمات طوال عقد الثمانينيات من القرن العشرين.
في معظم الحالات سيكون من المستحيل معالجة جميع المهام المتعلقة بترسيخ العدالة وإعادة بناء بلد من البلدان في الوقت نفسه.
علاوة على ذلك، فإنها قد تتناقض مع الثقافة القانونية لمجتمع ما بعد الصراع. يقول ديزموند توتو ،رئيس لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، إن العدالة على النمط الغربي لا تتلاءم مع الفقه القضائي الأفريقي، كما أنها غير شخصية. أما المنظور الأفريقي للعدالة، فهو أنها تهدف الى ‹معالجة الانتهاكات وإعادة تحقيق التوازنات واستعادة العلاقات المقطوعة .يسعى هذا النوع من العدالة الى إعادة تأهيل الضحية والمرتكب على حد سواء؛ المرتكِب الذي ينبغي أن يمنح الفرصة لإعادة الاندماج في المجتمع الذي أساء إليه بجرائمه. وأخيراً، قد يكون هناك مجموعة كاملة من النواقص والمخاطر العملية، مع احتمال أن تكون الأدلة قد أتلفت. في العديد من الحالات قد يكون نظام القانون الجزائي في حالة صدمة أو مشلولا بشكل خطير، أو ينظر إليه على أنه جزء لا يتجزأ من النظام القديم. يمكن لغياب الأدلة أن يؤدي الىً إطلاق سراح مرتكبين معروفين. مثل هذه العدالة، التي ستعتبر اعتباطية وتلحق ضرراً كبيراً بثقة الضحايا في النظام برمته.
1.2 نشوء منظور عابر للثقافات
للوهلة الأولى، يبدو أن المناظرة تقوم بين نموذجين متعارضين. من جهة ،تمُنح كل الأولوية للملاحقة القضائية. والمحكمة هنا هي المعيار الذهبي. وينبغي على المجتمع الدولي، من خلال المحكمة الجنائية الدولية الدائمة أو من خلال مبدأ الولاية القضائية العالمية، التصرّف إذا امتنعت السلطات المحلية متعمدة أو بحكم الضرورة عن اتخاذ إجراءات جزائية. في جميع الحالات، يلعب القضاة المحترفون الدور المحوري، ويعطى المشتبه به قدر من الاهتمام أكبر مما يعطى للضحية. إن واجب الملاحقة القضائية يشكل حجة أقوى من العديد من الظروف التي يخلقها السياق المحلي. وتوفر المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الكبرى مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، قوة النمو الرئيسية لهذا النموذج .على الطرف الآخر، هناك اختيار إستراتيجية تحاول تجنب اللجوء الى المحكمة قدر الإمكان. وينتقل مركز الجاذبية هنا من قاعة المحكمة الى جلسة الاستماع، ومن القاضي الى زعيم المجتمع المدني المحلي، ومن الهوس بالذنب الفردي الى البحث عن أنماط مجتمعية في الأعمال الوحشية المرتكبة، ومن الانتقام القانوني الى المصالحة الطقسية، ومن الدوافع الجزائية الموجهة دولياً الى الإقرار الكامل بالفرص التي يوفرها السياق المحلي.
باستخدام لغة تحليلية أكثر، يمكن للمرء أن يضع الأنموذجين على طرفي عملية متواصلة. من جهة هناك إستراتيجية تطلقها وتنظمها وتسيطر عليها مؤسسات الدولة (على المستوى الوطني أو الدولي). وتكون إجراءاتها رسمية وقانونية – عقلانية، والمحكمة الجنائية هي النمط الرئيسي في هذه العملية. ومن جهة أخرى من هذه العملية، هناك سياسات يطلقها وينظمها المجتمع المحلي، ويطغى على هذه السياسات الطابع غير الرسمي والطقسي – المجتمعي. ويشكل الطقس المتّبع في شمال أوغندا والمتمثل في طقوس سحق بيض الدجاج بالقدم، والذي يستخدم لإعادة إدماج الجنود الأطفال السابقين، واحداً من أكثر الأمثلة الملفتة على هذا النوع من المقاربات.
كانت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا مزيجاً إبداعياً من الإجراءات الرسمية وغير الرسمية والأعراف الدولية والتقنيات المصممة محلياً.
ثمة أسباب مقنعة لتصحيح صورة تصنيفين ‹نقيين› يختلفان من جميع الأوجه ويقصي أحدهما الآخر. أولا، في الحالات التي تحدث في العالم الواقعي تجمع سياسات العدالة الانتقالية، ولو بدرجات متفاوتة ،مكوًنات من كلا الطرفين. لقد أصبحت الغاتشاتشا، على سبيل المثال، رسمية جداً وبات بوسعها فرض أحكام بالسجن، رغم أنها تدار من قبل قضاة غير محترفين. ثانياً، فإن المقاربة الأصلية المتمثلة في التفكير بشكل مطلق (بالملاحقة القضائية أو الصفح والنسيان) تم التخلي عنها تدريجياً. ويمكن تفسير هذا التطور بما حدث على عدد من المسارات. يتمثل أحد التفسيرات في النجاح النسبي للجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، والتي تكونت من مزيج إبداعي من الإجراءات الرسمية وغير الرسمية والأعراف الدولية والتقنيات المصممة محلياً. كما أن هناك وعياً متزايداً بأن توسيع نطاق التنوع المحلي أمر مبرر تماماً. وهذا بالتحديد ما عنته دايان أورنتليشر، أستاذة القانون الدولي والخبيرة المستقلة لدى الأمم المتحدة في مجال محاربة الإفلات من العقاب، عندما كتبت مؤخراً: ‹بالنظر الى النطاق الواسع والاستثنائي للتجارب والثقافات الوطنية، كيف يمكن لأي كان أن يتخيل وجود صيغة جامعة مانعة للعدالة الانتقالية. إضافة الى ذلك، فإن التخطيط للعدالة والمصالحة ما بعد الصراع أصبح جزءاً لا يتجزأ ولا يمكن تجنبه من أي عملية مفاوضات سلام. ولذلك فإن هناك مخاطرة حقيقية وكبيرة بأن تقضي عملية سلام تفرض الملاحقات القضائية على أي احتمال للسلام. وتعد حالة شمال أوغندا دليلاً مقنعاً على المآزق الصعبة التي يترتب على المجتمع المحلي والميسرين الدوليين مواجهتها عندئذ .
1.3 أنظمة العدالة والمصالحة التقليدية: من مقاربة معيارية الى رؤية أكثر واقعية
لقد فتح التحول الحاصل في أنماط العدالة الانتقالية فضاءاً واسعاً لمناقشة دور الآليات التقليدية. في البداية، حظيت نقاط قوة هذه الصيغة (كونها ذات أصل محلي ويمتلكها السكان المحليون وراسخة ثقافياً، وما الى ذلك) بقدر مبالغ به من التغطية. لم يكن هناك نقص في معرفة العديد من نقاط ضعفها ،لكن تم تجاهلها في كثير من الأحيان. وكانت النتيجة، قدر كبير من صنع الأساطير ومناقشة ‹التقاليد المخترعة›، وأدت الفجوة المعرفية الناجمة عن ذلك الى عملية صنع قرار تستند الى بيانات ضعيفة، والى التقييم والتخمين المسبقين.
واجهت مبادرة الغاتشاتشا في رواندا مجموعة كبيرة من المشاكل التشغيلية.
تغير المزاج حالما بدأت نتائج الدراسات التجريبية بالانتشار. وقد اتضح ذلك في أبرز أشكاله فيما يتعلق بمبادرة غاتشاتشا. واجه البرنامج عدداً كبيراً من المشاكل التشغيلية. إضافة الى ذلك، لوحظ وجود أثرين مشكوك بهما لما وصف بأنه نموذج واعد جداً. كان يتوقع من محاكم الغاتشاتشا أن تقلص بشكل كبير عدد الأشخاص الموجودين في السجن) 120.000( والتعامل مع الحالات الكثيرة للإبادة الجماعية. لكن كما ستتم مناقشته في الفصل المتعلق برواندا، فإن الاستخدام المشكوك به للمحاكم الشعبية أدى الى وضع أكثر من 800.000 رجل وامرأة على قائمة المشتبه بهم. وكان الأثر الثاني غير المرغوب به هو أن الثقة المتبادلة بين المجموعتين العرقيتين – الباهوتو والباتوتسي – تراجعت. إلا أن التحول الأكثر أهمية في التصور والتقييم كان في الفهم المعمق، الذي بات مقبولا الآن على نطاق واسع، بأنّ التقنيات التقليدية، في رواندا وغيرها من بلدان ما بعد الصراع، تغيرت كثيراً من حًيث الشكل والمضمون نتيجة أثر الاستعمار والتحديث والحرب الأهلية.وهكذا فإن المقاربات المعيارية باتت تتراجع تدريجياًلصالح تقييمات عملية وواقعية للدور المحتملللآليات التقليدية داخل الإطار الأوسع لسياساتالمصالحة والعدالة الانتقالية .
مع ظهور نتائج الدراسات التجريبية لآليات العدالة التقليدية، فإن أهم التغيرات التي طرأت على تصورها وتقييمها يتمثل في الفكرة التي باتت مقبولة على نطاق واسع، وهي أن التقنيات التقليدية تغيرت من حيث الشكل والمضمون بسبب آثار الاستعمار والحداثة والحرب الأهلية.
والآن، تتمثل الخطوة التالية في معالجة المشاكل المعقدة التي تظهر خلال عملية البحث عن مصطلحات ومنهجية مقبولة.
2. دراسة الممارسات القائمة على التقاليد: مشاكل في المصطلح والمنهجية
‹ينزع مصطلح «تقليدي» بدلالاته التي تؤكد على المركزية الأوروبية الى الإشارة الى وجود هيكليات معيارية داخلية.› كما يشير أيضاً الى أنماط، تبدو راسخة في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية ساكنة. لكن ‹ينبغي أن نأخذ في الاعتبار أن المؤسسات الأفريقية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، لم تكن أبداً في حالة من العطالة. إنها تستجيب للتغيرات الناجمة عن عدد من العوامل والقوى›. وهما يشيران بشكل مقنع الى المشاكل التي تنشأ في أي دراسة لأدوات العدالة والمصالحة القائمة على التقاليد. المصطلح إشكالي. الى أي حد يكون استخدام وصف ‹تقليدي› مبرراً إذا كانت الآلية عرضة للتغيير الدائم تقريباً؟ هل هناك أي بدائل مرضية؟ إضافة الى ذلك، إذا كان موضوع الدراسة هدفاً دائم التحرك، أين ينبغي توجيه محور المراقبة؟ ثانياً، يظهر العديد من الأسئلة ذات الطبيعة المنهجية، مثل كيف يمكن تجنب المركزية العرقية في تطوير الأفكار الرئيسية التي ستوجه التحليل، وما إذا كان من الممكن على الإطلاق بالنسبة للمراقبين الغربيين أن يفسروا هذه الظواهر بطريقة سليمة.
هذه أسئلة لا يمكن تحاشيها. وهذا الجزء من الفصل يعالجها؛ إلاّ أن هذا لا يمكن أن يكون سوى تمرين غير مكتمل.
2.1 مصطلحات إشكالية
في القسم المتعلق بمحتوى الممارسات التقليدية في شمال أوغندا من الفصل الرابع، يكتب جيمس لاتيغو أنه لا يزال هناك حاجة للاستمرار في تتبع العمليات التي أدت الى تطور بعض الممارسات الأصلية، والى تلاشي غيرها وظهور ممارسات جديدة، مثل الأشكال المختلفة للمعالجة النفسية. لقد كان للسلطات الاستعمارية وعمليات التحديث، والحروب الأهلية أو الإبادات الجماعية آثار سلبية عميقة على المؤسسات الأصلية بحيث أنها لم تعد، إذا توخينا الدقة، تقليدية. المشكلة، هي أن المصطلحات البديلة تنزع أيضاً الى إثارة أسئلة محرجة. ‹عُرفي› قريبة من ‹تقليدي›. البعض يفضل ‹غير رسمي›، بحيث يركز على التناقض بين الطبيعة الرسمية وغير الرسمية لمؤسسات العدالة التابعة للدولة، لكن بعض دراسات الحالات في هذا الكتاب تظهر أن الآليات المعنية تكتسب سمات رسمية حالما تصبح، بشكل أو بآخر، جزءاً من سياسة العدالة الانتقالية. يظهر هذا بوضوح في حالة الغاتشاتشا الرواندية، كما يبين الفصل الثاني. تظهر مشكلة مشابهة عندما يستخدم تعبير ‹غير الدولة› كصفة. ينزع استخدام هذه التقنيات، في سياق سياسة عدالة انتقالية أوسع، الى إدخالها في مجال نفوذ سلطات ومؤسسات الدولة. لا يبدو أن هناك مصطلح عام يحقق الغرض.
هذا النقاش، يتجاوز كونه جولة مصطلحية خالصة. إنه يشير الى أحد الملامح الجوهرية في الأدوات التقليدية اليوم، وهي أنها هجينة وفي حركة دائمة جيئة وذهاباً بين أصولها واستيعابها واستخدامها من قبل الدولة.
يحافظ هذا الكتاب على مصطلح ‹تقليدي› على أنه المصطلح الرئيسي، نظراً لغياب بديل أكثر دقة. لكننا نقرّ صراحة بالعمليات الديناميكية التي تدفع شكل ومحتوى موضوعنا. كل دراسة حالة، تصف دورة حياة تقنيات العدالة والمصالحة القائمة على التقاليد، وتضع الصيغة الفعلية في مواجهة مع الأشكال التي كانت عليها سابقاً. إلا أن التحليل، من حيث نقاط القوة والضعف، يركز على الخصائص والأداء الراهنين.
2.2 المزالق والخيارات المنهجية
الإعتدال العرقي هو كالطبيعة: إخرجها من الباب الأمامي وستعود من إحدى النوافذ. إنها مصدر رئيسي للتصورات الخاطئة عند النظر الى ممارسات العالم الخارجي. وهذه مخاطرة محددة في أي دراسة أو تقرير يتعلق بالتقاليد كظاهرة اجتماعية – سياسية في المجتمعات الأفريقية. ثمة نزعة قوية لا تزال موجودة لإسباغ شيء من الرومانسية على الموضوع، خصوصاً في الأوساط الأكاديمية وأوساط المنظمات غير الحكومية في أوروبا وأميركا الشمالية. الأكثر من ذلك، هو أن بعض الحواجز الثقافية التي تعترض خط النظر مرتفعة جداً، وكذلك العوائق اللغوية. في كتابه عدالة المحاكمات: المحكمة الجنائية الدولية وجيش الرب للمقاومة، يبين تيم آلن، وهو خبير بشؤون شمال أوغندا، مدى التشوش والاختلاط التي تثيرها بعض الأفكار المحورية في المصطلحات المحلية بالنسبة للمراقبين الخارجيين: ‹في لغة اللو، «العفو» و «الصفح» لا فرق بينهما ،حيث تستخدم نفس الكلمة (تيمو كيكا) بالمعنيين. كانت المنظمات المسيحية والزعماء «التقليديون» عرضة بشكل خاص للخلط بين الفكرتين، وكانوا يقولون إن ثمة نظام عدالة لدى شعب الآشولي يستند الى الصفح يحظى بمكانة أعلى من مجرد التشريع التقليدي وإنفاذ القوانين. وقد أخذت العديد من المنظمات غير الحكومية بسذاجة هذا الكلام بمعناه الظاهري ›.
لتحاشي مثل هذه المزالق وغيرها، اختارت المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات إشراككتاب محليين في هذا المشروع. الاستثناء الوحيد هو الفصل المتعلق بالغاتشاتشا في رواندا. كاتبهباحث بلجيكي، قضى فترات طويلة من الوقت يجري أبحاثاً ميدانية في المناطق الريفية في ذلكالبلد الواقع على البحيرات العظمى. (الخبراء الروانديون الذين كانوا مشاركين أصلاً في المشروع انسحبوا منه). دراسات الحالات الأخرى، كتبها أفارقة على معرفة وثيقة بمجتمعاتهم. والنتيجة ،كما تظهر مساهماتهم، هي مجموعة من دراسات البلدان المبنية على اطلاع واسع وذات صلة وثيقة بموضوعاتها. هؤلاء المؤلفون هم أنفسهم فاعلون في مجتمعاتهم بدرجات مختلفة، وليسوا مراقبين من بعيد يقرؤون ويكتبون من أمكنة مريحة توفرها جامعة أو منظمة غير حكومية أو جريدة. بعضهم كان له علاقة أيضاً بالصراعات التي تجري دراستها. وينتج عن هذا آراء قوية ،بل استفزازية، حول أسباب الحرب التي مزقت بلادهم. كما أن لهم آراء صريحة حول دور آليات العدالة التقليدية والمصالحة. بعض القراء قد يجدون، نتيجة لذلك، أن هذا كان على حساب التوازن والحيادية. إلا أن منهجنا يتمتع بميزة إضفاء الوضوح على النقاش الدائر حول خيارات السياسات المتعلقة بالعدالة الانتقالية .
تعتمد الحالة الدراسية، الى حد بعيد، على الأطر التحليلية التي توجه أبحاثنا ومراقبتنا، خصوصاً إذا كان الطموح هو جعل المنتَج مقارناً قدر الإمكان. ولهذه الغاية، عمل الفريق (كبير الباحثين ،والكتاب الآخرون وقائد المشروع) على قائمة تَحقُّق مشتركة للقضايا والمواضيع التي كان يفترض أن تغطي مواد المشروع. قدمت مسودة من القائمة وتمت مراجعتها بإسهاب في اجتماع مع المؤلفين في بريتوريا يومي 25 و26 سبتمبر 2006. لكن تم الاتفاق على أنه ليس من المقصود أن تكون القائمة إطاراً تشغيلياً صارماً، لأن ذلك سيؤدي الى ما يسمى عمى الملاحظة. إن المجتمع يصوغ بشكل دائم أشكال وتعابير جديدة لأنماط موجودة. ووحدها الأدوات البحثية التي تتمتع بالمرونة الكاملة يمكنها أن تسجل التجليات الجديدة، على سبيل المثال، لآليات العدالة غير الرسمية .يقدم فيكتور أغريجا وبياتريس دياس-لامبرانكا مثالا مقنعاً في دراستهما. لقد استعمل الضحايا والمرتكبون في غورونغوزا، في موزمبيق، نماذج قديمة منً المعالجة والمصالحة لتطوير طقوس جديدة أكثر ملاءمة للظروف الفعلية لما بعد الصراع.
ثمة عاملان يبرران اختيار البلدان الخمسة لتكون جزءاً من هذا المشروع. إنها متشابهة الى درجة كافية، بحيث يمكن المقارنة بينها. جميعها تعاني من تركة من الصراعات العنيفة. وفي الوقت نفسه ،فإنها تشكل تنوعاً واسعاً من حيث نوع وحالة الصراع المحلي (مستمر في شمال أوغندا، قريب من تحقيق السلام في بوروندي، وانتهى في ثلاثة من البلدان التي يركز عليها المشروع)، ونوع العملية الانتقالية، ودرجة استخدام الأدوات المحلية الأصلية في برامج العدالة الانتقالية في البلد (أدمجت بشكل رسمي في رواندا، وارتبطت بشكل رسمي بلجنة الحقيقة، كما في سيراليون، ويخطط لإدماجها في أوغندا، ولا تستخدم بشكل واضح في بوروندي وموزمبيق). كما كان اختيار الحالات، يستند جزئياً الى مشاروات مع موظفي وزارة الخارجية البلجيكية، التي مولت المشروع .
المصدر: IDEA