``الشفشفة`` في السودان: الدبلوماسية تدخل مجال السرقة
مواطنون - خاص
بلغت "الشفشفة" مكانة سامية في منافذ البيع، والأسواق التي تحمل لقب "دقلو" المنتشرة على نطاق واسع في السودان، وحل "الشفشافة" سارقي المنازل والمخازن مكان الموردين. يجلبون بضائع رخيصة مجهولة النسب، يحشونها في جيوب المحلات التجارية ومراكز البيع، التي يديرها أشخاصا لا يفرقون بين الحلال والحرام. هم فقط يبحثون عن الربح الوفير حتى لو كان ممحوقًا وغير شرعيًا.
وظاهرة "الشفشفة" المتمددة معترفًا بها في الأسواق. وباتت واقعا أجبرت الأهالي التعامل معها في هذه الظروف المعقدة، خاصة تلك المواد الغذائية المرتبطة بمعيشة الناس والحاجة اليومية، وتلك التي باتت نادرة مثل الدقيق، الزيت، السكر، وخليط أكياس اللبن التي لا يعرف أصلها ومدة صلاحيتها. وجميع هذه الأشياء وغيرها يتم جلبها بأيادي المسلحين. يأتون بها من عمق الأحياء المجاورة للأسواق أو تلك البعيدة. لا يعرف هؤلاء اللصوص العار، همهم الوحيد هو جني المال حتى لو كان ملطخًا بالدماء.
موسى رُجلا في الخمسين من العمر، له لسان طاعم مثل السكر الذي يعرضه أمام محله المعروش بالقش وبعضا من الملايات الممزقة. لا يمتلك موسى عصى سحرّية، ولكنه يمتلك شبكة من أقربائه الناشطين داخل أحد الأسواق الشهيرة بشرق النيل شرقي العاصمة الخرطوم. يتمتع هذا الرجل بعلاقات حميمة مع "الشفشافة" لدرجة أنهم يتصلون عليه قبل الدخول إلى السوق، حيث يقوم هو بعرض البضاعة المشبوهة وتحديد سعر البيع. وبعد التخلص من البضاعة و حمولة الشاحنة بمساعدة مجموعته، يقوم بجمع المبلغ وتسليمه لـ "الشفشافة" المدججين بأنواع مختلفة من الأسلحة، الذين ينتظرونه عند رواكيب بائعات الشاي والقهوة. هناك يتم تسوية الأمر، ويتم منحه حفنة من المال نصيبه في البيعة القذرة.
ولكن "محمد" الذي كان يعمل في مجال سمسرة العقارات، له أسلوب مختلف مع "الشفشافة"، حيث يقوم بشراء "البضاعة المشفشفة" من الشاحنة أو العربة ويدفع ثمنها "كاش". ثم يقوم هو بفرز البضاعة ومن ثم بيعها وفقا لهواه، حيث لا توجد قوانين أو لوائح تضبط حركة الأسعار. في الغالب يخرج "محمد" بنصيب الأسد، بيد أنه لم يتعرض للخسارة البتة، طوال ستة أشهر، هي عمر مهنته الجديدة في "سوق الشفشفة".
وتنشط "ز" المطلقة في تجارة المحصولات. تأتي كل جمعة من المناطق حول الكاملين بولاية الجزيرة. تأتي بـ "الدفّار" محملة بالفول السوداني، العدسية، الويكة، وبعض من البقوليات والاحتياجات الأسرية التي ترقد على الأرض وتفترش التراب. تبيعها من تحت أقدام المارة بسوق ستة، ثم تنزل "محلات الشفشفة" تشتري الأدوات المنزلية والكهربائية بسعر رخيص وتعرضها في تلك المناحي من ولاية الجزيرة بالتقسيط والكاش. لم تكترث البتة عن مصدرها أو هويتها المجهولة.
أما "جمال" تاجر القطاعي فيقول، "الشفشفة" هي سرقة كاملة الأركان. والسوق ممتلئ عن بكرة أبيه بهذه "البضائع المشفشفة". وبالطبع أن كلمة شفشفة لغة دبلوماسية أطلقها السماسرة غطاء على المسروقات لبيعها بصيغة مشروعة، ولكن الأمر عندي هي عملية تبييض، أشبه بغسل الأموال. وهذا الوضع هو الذي دفعني لتغيير هوية مهنتي، من تجارة القطاعي إلى بيع الخضار الذي ليس فيه شبه أو قناع دبلوماسي، لأن الخضروات والفاكهة معروفة الأصل، كما العمل فيها شريف وربح حلال وعفيف، لا يخالطه شك.
بعيدًا عن المعنى الأصلي لـ "الشفشفة" في قاموس اللغة العربية الأم، إلا أن للكلمة معنى آخر داخل التظاهرات الشرائية. ومصطلح يحمل نفس الدلالة عند قاع السوق، قبل أن يمر بمراحل ويتطور وفقا لواقع حياة الحرب، فباتت الشفشة، "لقبا دبلوماسيا" جديدا للسرقة، وهي محاولة يائسة من السماسرة، وسطاء الشر المستطير، لصبغ الشرعية على هذا النوع من الجرائم التي أصبحت عادية في ظل السيولة الأمنية واختفاء القانون ونصوصه.
و"الشفشفة" في المجتمعات المحلية والشعبية بالسودان، كانت تطلق على نوع معين من اللصوص الصغار، الذّين يبحثون في جيوب ضحاياهم عن غنائم ثمينة القيمة وخفيفة الوزن، مثل الهواتف النقالة والمشغولات الذهبية بجانب العملات الصعبة. وتتم العملية بسرعة وفي وقت وجيز، وغالب هذه العمليات تقع في الطرقات الفرعية والشوارع المظلمة. وتعد "الشفشفة" نسخة حديثة لـ "الهمبتة" القديمة من حيث الملامح، وكلاهما سلالة من عائلة السرقة، وينتسبون لأسرة اللصوص، ولكن ثمة اختلاف بسيط بين الاثنين لأن "الهمباتي" به بعضا من سيرة حسنة حسب الرواة، وفيه شيئا من الإنسانية، وقد يسرق من أجل عمل الخير، أما "الشفشاف" فقد أثبت الواقع أنه مجرد لص ألغى ضميره.