محجوب يروى تجربة ``الأيام`` مع نظام عبود: من عبود جومبي الى منتوقمري 2 - 3
صديق محيسى
في مواجهة اول نظام عسكري يحكم السودان يروي محجوب تجربة "الايام" مع ذلك النظام. الصحافة في عهد عبود كانت تتحرك في هامش ضيق على صعيد الخبراوالتعليق، وكانت هناك لائحة من الممنوعات لاتترك اي مجال للإجتهاد في الحصول علي الاخبار الحرة. جاء ذلك عبر تعليمات صارمة تفرض على الصحف ألاينشر اي خبر يتعلق بنشاطات الحكومة إلا من النشرة الإخبارية الرسمية التي كانت تصدرها يوميا وزراة الإستعلامات والعمل. فقد جمد نظام عبود قانون الصحافة لعام 1930، كما حل اتحاد الصحافة، والغي عضوية ممثل الصحافة وهو رئيس الإتحاد في لجنة التصديق علي الصحف، ولكن بعد مشاورات جانبية قبلوا ان يكون بشير محمد سعيد عضوا في اللجنة بصفته الشخصية وليس ممثلا لإتحاد الصحفيين المحلول.
كانت هناك تقارير يومية تقدم من مكتب خاص بوزارة الإستعلامات الي وزارة الداخلية عن اداء الصحف اليومي، وهي ما يمكن ان نطلق علية رقابة ما بعد النشر. وعمل في هذه الوظيفة كل من محمد الحسن احمد، وعوض عبد الرازق، ومحمد الخليفة طه الريفى. أما على صعيد الكتابات فلم يكن مسموحاً بنشر أيّة مقالات تهاجم أو تنتقد أداء الحكومة. من بين تلك الصحف التي لم تتقيّد كثيراً بتوجيهات الحكومة العسكرية، كانت صحيفة "الأيّام" التي أخذت ضمنياً موقفاً معارضاَ للنظام العسكري، فنالت من العقوبات التي وصلت إلى حد الإغلاق أكثر من مرة. أما الصحف الأخرى فقد تلقت إنذارات وتحذيرات ولفت نظر من حين لآخر، ولكن أي منها لم يوقف عن الصدور إلا قليلاً ولأيام فقط.
يقول محجوب محمّد صالح: "إنّ الصحيفة (الأيّام) أوقفت ثلاث سنوات ونصف السنة على مرتين خلال ست سنوات هي عمر الحكم العسكري الاول. وكان التعطيل الأول في يناير 59 عندما اعترضت "الأيّام" على محاكمة قادة العمال امام محكمة عسكرية، واطلقت عليها اسم محاكمة "نوربيرج" اشارة للمحكمة التي انشأها الحلفاء لمحاكمة القادة النازيين مما اغضب السلطات فلجأت الي التعطيل. وكان الأستاذ بشير محمّد سعيد كتب في عموده اليومي مقالاً هاجم فيه تلك المحكمة العسكرية التي مثل امامها كل من الشفيع أحمد الشيخ سكرتير اتحاد العمال، ومحمّد السيد سلام رئيس الاتحاد، وقاسم أمين ومحمد احمد عمر وطالب الحكومة أنْ تقدمهم إلى محاكم مدنية يكون فيها حق الدفاع عن أنفسهم مكفولاً. لكن الصحيفة عاودت الصدور بعد انقلاب الرابع من مارس 1959 والذي عرف بحركة (شنان) وقادها معه اللواء محي الدين أحمد عبد الله الَّذي كان متهماً بانتمائه إلى الحزب الوطني الاتحادي، لكن الصحيفة اغلقت مرة ثانية بسبب نقدها للنظام. ومن ضمن الممنوعات كان نشر اخبار الفساد الذي رافق بناء قري حلفا الجديدة بعد ترحيل اهالي حلفا القديمة اليها، غير ان "الأيام" كان تتحايل علي المنع بمطالبتها تشكيل تحقيق في هذا الموضوع او ذاك.
كانت السلطة العسكرية تنظر دائما إلى صحيفة "الأيّام" نظرة شك وريبة، بلْ إنّ بعض رجال الحكم كانوا يرون أنّ هذه الصحيفة تفتح صفحاتها للأقلام الشيوعية، وذلك لوجود محجوب عثمان القيادي في الحزب الشيوعي السوداني في قيادة تحريرها. وبالفعل فإن "الأيّام" كانت تنشر مقالات لعدد من الكتاب الشيوعيّين منهم عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب وعبد الرحيم الوسيلة، ومحمّد سعيد معروف، وسيد أحمد نقد الله، وحسن الطاهر زروق. وقد غضبت السلطة أيما غضب عندما نشر الكاتب محمود جاد كريم وهوعضو بالحزب الشيوعي، سلسلة مشاهدات من زنجبار حيث وقف هناك على المذبحة التي وقعت ضد السلطان العربي عام 1962 وقتل فيها آلاف العرب، وألقيت جثثهم في المحيط الهندي. ومحمود جاد كريم كان أحد الكتاب اليساريّين الَّذين ينشرون في "الأيّام"، وكان القراء ينتظرون مقالاته تلك لما فيها من غمز ولمز للنظام العسكري. وقد تضايق كبار رجال الدولة العسكريين عندما سخر جاد كريم من عبود جومبي أول رئيس وزراء لزنجبار التي اندمجت فيما بعد مع تنجانيقا وصارت دولة واحدة هي تنزانيا. وكان يذكر اسم عبود فقط دون أنْ يذكر اسم أبيه، مما اعتبره النظام نوعاً من النَيل من الرئيس إبراهيم عبود، فعلى الفور اتصلت وزارة الداخلية، وطلبت من رئيس التحرير بوقف تلك المقالات، ومُنع جاد كريم من الكتابة. ولكن المقال الَّذي أثار الأزمة كان عملياً هو آخر مقال في سلسلة مشاهدات صحفي في زنجبار والتي كان قد زارها في العام نفسه.
ويروي محجوب ان "الايام" تلقت انذارا قويا من وزارة الإستعلامات عندما نشرت خبرا مثيرا كان عنوانه (إنقلاب17عربة سكة حديد في خط بورسودان) مما اثار حفيظة النظام، وكاد ان يغلق الصحيفة لولا ان بشيرا هدأ من روعهم نافياً بأن يكون الرقم 17 مقصود به التورية ضد الحكم. وقد تخاطف الناس في ذلك الصباح أعداد صحيفة "الأيّام" لقراءة الخبر المثيرالمزدوج المعنى. فالَّذين نظروا إلى ماوراء الحادثة وقفوا ملياً أمام العنوان المثير والَّذي ارتبط بأذهان العديدين بأنّه يعني انقلاب 17 نوفمبر. وسارع وكيل وزارة الداخلية للاتصال برئيس التحرير بشير محمّد سعيد محذرا ومهددا اياه من العودة لمثل هذه الاساليب، وإلا فأن السلطات لن تتواني في تعطيل الجريدة.
يقول محجوب ان الذي كتب العنوان هو مصطفي امين وليس محجوب عثمان كما اشيع يومذاك. يروي محجوب: كان نظام عبود يريد هدؤا عاما في أنحاء البلاد. حتي المشاكل الرياضية كان ممنوع علي الصحافة الخوض فيها. واذكر كيف طلب من الصحف وقف نشراخبار "الفكي ابو نافورة". وحكاية الفكي ابو نافورة لأبناء هذا الجيل هي ان عينا للماء تفجرت جنوب القضارف بسبب الضغط الارضي في شكل نافورة، فأستغل ذلك احد المشعوذين وأدعي انه هو الذي فجر هذه العين موهما الناس بأن مياهها تعالج كل الأمراض، فأندفع الناس من جميع انحاء البلاد الي القضارف صوب هذه العين مما ترتب علي ذلك ظهور مرض الكوليرا من كثرة الجموع التي اقامت في معسكرات بالقرب من النافورة، حتي جاءت الشرطة واغلقت النبع، واعتقلت المشعوذ الذي جني ارباحا كبيرة من بيعه الطين للبسطاء. ليس هذا وحده بل ان وزير الإستعلامات طلعت فريد كان يطلب من الصحف الا تهاجم الفريق القومي لكرة القدم اذا انهزم في مباراة خارجية او داخلية.
وفي سيرة حساسية نظام عبود من "الأيام" يقول محجوب انه ذات مرة تم استدعائي الساعة السادسة صباحا الي مكتب وزير الداخلية محمد مجذوب البحاري، وكنت قلقا ومتوترا من ان هذا الإستدعاء المبكر لابد وان يكون لإمر جلل. وعندما وصلت مبني الوزارة وجدت الوزير البحاري ومعه طلعت فريد في انتظاري، و"الأيام" موضوعة علي سطح المكتب. وعندما دخلت بادرني اللواء طلعت بقوله غاضبا ما هذا الذي نشرتموه هل تظنون اننا اغبياء، اتسخرون منا ؟ فإندهشت لهذا الهجوم المباغت، وقذف بالصحيفة اليّ، وقال لي اقرأ هذا الخبر. وكان الخبر المنشور هو تصريح للرئيس الأمريكي ايزنهاور قال فيه ان الجنرال مونتغمري كان عسكريا ممتازا، ولكنه لايفقه شيئا في السياسة، وهكذا فسرها اللواء طلعت باننا قصدنا ان نقول ان العسكريين لايفقهون شيئا في السياسة! غير انني اكدت لهما اننا لم نكن نقصدهم عندما نشرنا الخبر فهو يعتبر صحفيا خبر عادي ومع ذلك حذراني من نشر هذا النوع الأخبار.