خطاب الكراهية عبر مواقع التواصل الاجتماعي: سبل المكافحة 3-3
دوللي الصراف
أستاذ علم الاجتماع - الجامعة اللبنانية
خامسًا: آليات الوقاية والمواجهة
يُمْكِنُ مواجهةُ خطابِ الكراهيةِ على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال أربع آليات أساسية تتم من خلال: (القانون - التربية والتعليم - التطور التكنولوجي - التوعية)، وتتشارك في مسؤوليتها جميع الأطراف المعنية بالظاهرة، بدءًا من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ومرورا بالدول ومؤسساتها ووصولاً إلى الجماعات والأفراد داخل المجتمع المحلي. ويمكن تصنيف هذه الآليات ضمن شكلين من الإستراتيجيات: القريبة المدى والبعيدة المدى، حيث تشمل الأولى آليات المواجهة لخطاب الكراهية عند حدوثه، وتشمل الثانية الآليات للوقاية منه ومَنْع تَنَامِيهِ وانتشاره في المستقبل.
وتتجلى مسؤولية الدولة في:
1. تعزيز الأُطُر القانونية الرادعة لخطاب الكراهية وتبادل المعلومات بين الخبراء على المستوى العالمي حول المبادرات والقوانين الوطنية والملاحقة الجنائية في مجال خطاب الكراهية عبر الإنترنت، وكيفية تطوير التدابير المضادة وأفضل الممارسات لمكافحة هذه الظاهرة بشكل فعالٍ. ويمكن الاستفادة من تجارب بعض البلدان في هذا المجال، فعلى سبيل المثال:
- وضعت ألمانيا قانونًا من شأنه تغريم شركات التواصل الاجتماعي ما يصل إلى 50 مليون يورو في حال تقاعست عن حذف خطابات الكراهية بسرعة.
- وضعت فرنسا قانونًا يُلزْم منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث بإزالة أي محتوى يُحَرِّض على الكراهية، والعنف، والعنصرية، والتعصب الديني في غضون 24 ساعة، أو تكون هذه المنصات تحت طائلة التعرض لغرامة تصل إلى 25,1 مليون يورو.
- وضعت كندا قانونًا يفسر خطاب الكراهية بأنه محتوًى يُعَبِّر عن كراهية أو تشويه سمعة شخص أو مجموعة عبر الإنترنت، ويتيح للمُشْتَكِين تقديم شكاوى ضد الأفراد الذين ينشرون مثل هذه الخطابات على الشبكة العنكبوتية. ويلزم الشخص الذي يرفض التوقف عن التعبير عن خطاب الكراهية، بدفع غرامة قدرها 50 ألف دولار للضحايا.
2. إنشاء تطبيقات ومنصات ومنتديات ترصد خطاب الكراهية على الإنترنت، وتُقَدِّم نصائح حول كيفية مواجهته والآليات الواجب اعتمادها من قبل الضحايا، إضافة إلى خلق مساحات للنقاش وتبادل الرأي حول انعكاساتها وتداعيتها. ويمكن دعم جهود منظمات المجتمع المدني والناشطين المتطوعين في هذا المجال، وتوفير دليل مُوَحَّد لهم يتضمن كل الإستراتيجيات الملائمة والمعارف المناسبة.
- على سبيل المثال، أطلقت “منظمة مدنية سويسرية تسمى “التحالف النسائي” أوّل تطبيق سويسري لتَتَبُّع خطاب الكراهية على الإنترنت ومكافحته بمساعدة مجموعات من المتطوّعين. حيث يتم تحديد التعليقات التي تَحُضّ على الكراهية، وتشجيع المتطوّعين على المشاركة في نقاشات للمساعدة في مواجهتها (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2019)، وتقدّم المنصة نصائح لمساعدة المستخدمين على تحديد الكلام الذي يَحُضّ على الكراهية، بالإضافة إلى الأساليب الواجب اعتمادها في الخطاب المضاد لتلك الإستراتيجيات.
3. إنشاء مجلس رقمي عربي بين جميع الدول العربية يكون بمثابة منتدى للحوارات الإستراتيجية للسياسة الرقمية والتكنولوجية، يسعى إلى تعزيز المشاريع الناجحة في سياسات الوقاية والمواجهة، ونشر نتائج الأبحاث الرائدة، وتبادل الخبرات والتعاون بشكل كامل ومنسق.
- على سبيل المثال، “أطلقت المفوضيةُ شبكةَ التوعية بالتطرف (RAN)، التي تضم الآن أكثر من 3200 عضو من الأوساط الأكاديمية والحكومية والمجتمع المدني. وتتمثل مهمة الشبكة في تعزيز المشاريع التجريبية وأفضل الممارسات عبر الحدود ونشر نتائج الأبحاث الجديدة. وفي عام 2019م، تم إنشاء مجلس توجيه إضافي لتقديم المشورة للدول الأعضاء بشأن سياسات الوقاية الخاصة بهم (المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات ،2019).
4. إنشاء جيش إلكتروني خاص بالدولة يواجه الكراهية بخطاب تسامح يعتمد على الأساليب نفسها التي تُسْتَخْدَم من قبل جماعات خطاب الكراهية؛ أي عبر الذباب الإلكتروني، وزيادة عمليات التفاعل والنشر بشكل واسع في العالم الرقمي، على أن تركز رسائل التسامح على مضار خطاب الكراهية وكلفته الباهظة، وتعزيز القيم الإنسانية كضرورة للأمن الإنساني والوجودي؛ لأنه مع الكراهية يخسر الجميع. ويمكن دعم منظمات المجتمع المدني في هذه الإجراءات المضادة سواء أكانت من قِبَل الحكومة مباشرة أم السلطات المحلية أم الأمم المتحدة أم المنظمات الدولية المعنية.
5. تعزيز التعليم الرقمي وتعديل المناهج التعليمية لطلاب المدارس؛ كي تتضمن مواد تعليمية جديدة تتناسب مع العالم الرقمي الذي نعيش فيه والظواهر المرتبطة به، كإضافة مادة “التوعية الرقمية”، ومادة “التربية على المواطنة الرقمية ،”ومادة “الديانات والثقافات المختلفة”، ومادة “التربية على التسامح والقيم الإنسانية...”إلخ. وتستطيع هذه المادة أن تبني وعيا للأطفال والمراهقين حول مخاطر العالم الرقمي وتهديداته من جهة، وتعزيز صورة إيجابية حول الآخر المخْتَلِف من جهة أخرى بما يتناسب مع ثقافة التعدد والعيش المشترك والمواطنة العالمية الجديدة.
6. تعزيز أخلاقيات وسائل الإعلام والعاملين فيها من خلال تحميلهم مسؤولية دورهم الكبير في تعزيز الأمن الإنساني وضمان سلمية المجتمعات، وتجهيزهم بالمهارات والمعارف الضرورية للتعامل مع خطاب الكراهية والتصدي له، وإنتاج خطاب مواجهةٍ دون المساس بحقوقهم وحريات التعبير التي يتمتعون بها. ومن الضروري في هذا السياق قيام المؤسسات الإعلامية بحملات توعية تثقيفية للرأي العام حول تهديدات رسائل الكراهية وخطورتها، وإعلام الناس بكيفية مواجهتها قانونيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا.
7. العمل على تعزيز مبادرات دولية وداخلية لحوار الثقافات والأديان والإثنيات وغيرها، وتعزيز جهود المراجع الدينية في هذا المجال، ومنظمات المجتمع المدني، والمنظمات الدولية، من خلال التركيز على نشر القيم الإنسانية المشتركة واحترام الآخر وتَقَبُّل اختلافِهِ. وعلى سبيل المثال فقد أبْرِمَت “وثيقة لقاء الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” في عام 2019م بين قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس وفضيلة شيخ الأزهر د. أحمد الطيب، التي شددت على ضرورة بناء هويات منفتحة ضد الانغلاق على الذات و”النزوعات التعصبية”، ونبذ العنف واحترام كرامة الإنسان.
8. تعزيز دور القيادات الدينية في التنشئة الأخلاقية والدينية والإنسانية للأفراد، عبر رفض جميع أشكال الكراهية التي تُشَكِّلُ تهديدًا للبشرية وتخرج عن تقاليد الأديان، والتوعية حول خطورة السلوكيات العنيفة التي تُمَارَس من قبل أفراد وجماعات باسم الأديان، وهي نتاج لتراكمات الفهم الخاطئ للنصوص الدينية.
9. إنشاء وحدات بحثية تابعة للدولة لمتابعة ودراسة الظواهر المسببة لخطاب الكراهية ونتائجه ومؤشراته، وتَتَبُّع مساراته التي تتغير باستمرار مع التطور المتسارع للتكنولوجيا الرقمية، على أن تقوم هذه الوحدات بتقديم حلول علاجية ووقائية، يشترك في بلورتها المتخصصون في مجالات التكنولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والقانون والإعلام والدين والمجتمع المدني.
10. تعزيز جهود منظمات المجتمع المدني الرامية إلى مكافحة خطاب الكراهية بالآليات المناسبة، سواء أكان ذلك عن طريق حملات التوعية، أم الكشف عن هوية المرتكبين، أم إنتاج خطاب مضاد لها، أم إنشاء منصات لمساعدة الضحايا، ووضع إجراءات مبتكرة تهدف إلى مكافحة الكراهية في وسائط الإعلام، بما فيها الإنترنت. وتشمل تلك الإجراءات تحديد اتجاهات الكراهية، وتَتَبُّع ورصد المواقع الشبكية ذات الخطاب المحَُرِّض على الكراهية ،وإخطار المجتمعات المحتمل تأثرها أو استهدافها بشأن أنشطة بث الكراهية، والعمل عن كثب مع مقدمي خدمات الإنترنت والوكالات الحكومية من أجل الإبلاغ عن المحتوى المحَُرِّض على الكراهية، وتوفير مواد تثقيفية وبرامج تدريبية على الإنترنت.
الخاتمة
وأخيرًا لابد من القول: إن فاتورة الكراهية باهظة جدًّا والفشل في إدارة علاقات ومصالح بناّءة كان الرابح الكبير حتى اليوم. وأنه لا بد من معالجة عميقة للبنية والسياقات التي تُنْتِج الكراهية في أي نطاق كان، وعدم تحويلها إلى قيمة حاكمة للممارسات. وهذا يتطلب إستراتيجيات تشاركية عالمية ودولية ومحلية، تسعى إلى تطويق الظاهرة قانونيًّا وتكنولوجيًّا قدر الإمكان، وصولًا إلى إقرار “شرعة المواطنية العالمية لمناهضة خطاب الكراهية”. وتعمل في الوقت نفسه بالتعاون مع جميع الأطراف المعنية، على بناء حالة وعي عابرة للجماعات والشعوب والثقافات، تقوم على خيار تَقَبُّل الآخر، وليس على صناعة العدو بعيدًا عن منطق العقل.
وينبغي لنا بناء وَعْي عام يؤمن بأن الاجتماع الإنساني البَّنَّاء والإيجابي في النطاق المحلي كما في النطاق الإنساني، يتطلب استبعاد الكراهية كقيمة وكخيار، ويتوافق داخليًّا وإنسانيًّا مع ذلك، ويؤمن أيضًا بأن سلامة الحياة في كل نطاق تتطلب مقاومة الكراهية بصفتها عدوانًا مُنْتِجًا للخراب في الخارج والداخل، ولها ضحايا كثيرون ولا يربح فيه أحد. فنحن في حاجة إلى وَعْي يوفر العبور إلى مجتمعات آمنة متآخية ومتسامحة، تنتصر للإنسان ولمنظومة القيم التي تُحَقِّق الأمن الاجتماعي بمختلف تجلياته.
أوراق السياسات الأمنية
https://nauss.edu.sa