ندوب الحرب في مدينة الجنينة: قصة مذبحتين
زينب محمد صالح
صحيفة الغارديان، 29 فبراير 2024
ترجمة: صلاح محمد خير
يمكن لمدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، أن تشبه مدينتين تضمهما مدينة واحدة؛ فهناك مقابر جماعية ومركبات مدرعة مهجورة تتناثر في الشوارع، وأطفال مشردين، ولكن يوجد في المدينة أيضاً مطاعم تم افتتاحها حديثاً، وأسواق صاخبة وسيارات تويوتا حديثة الصنع، يطلق عليها اسم "كنجكانجيا"، وتعني السيارات المسروقة في الدارجة المحلية، بسبب افتقارها إلى لوحات التسجيل.
منذ اندلاع الحرب بين الجيش والقوات شبه النظامية، المعروفة باسم قوات الدعم السريع، في شهر أبريل من العام الماضي، شهدت المدينة مذبحتين كبيرتين. فقد القيت الجثث المتحللة في الشوارع لأكثر من عشرة أيام خلال المذبحتين، لتنهش لحومها الكلاب ويأكلها الدجاج. لا تزال بقايا جثث الموتى في الشوارع حتى الآن ويتخطاها الناس أثناء ذهابهم لممارسة أعمالهم اليومية.
تم تقريباً ترك بعض الأحياء السكنية في وسط المدينة، والتي اعتاد النازحون بسبب النزاع في مناطق أخرى من دارفور التجمع فيها داخل المباني الحكومية. تكسو المباني آثار الحريق وثقوب الرصاص في جدرانها جراء القتال.
لمدة شهرين من منتصف أبريل وبعدها لمدة أسبوع في أوائل نوفمبر، تعرضت الجنينة للاضطراب بسبب القتال الذي تطور بسرعة على أسس قبلية، حرضت المساليت والسكان غير العرب على دعم الجيش ضد قوات الدعم السريع والمليشيات العربية المتحالفة معها.
لقي أكثر من 10.000 شخص حتفهم، معظمهم من المساليت، وفر آلاف الأشخاص الآخرون غرباً عبر الحدود إلى تشاد.
وفرضت المليشيات العربية المتحالفة مع قوات الدعم السريع حصاراً على المدينة في شهر مايو. وفي 15 يونيو، دفع تعذيب وقتل والي ولاية غرب دافور، خميس أبكر، الذي ينتمي إلى المساليت، على أيدي حلفاء قوات الدعم السريع، كما يُعتقد، إلى نزوح آلاف الأفراد إلى تشاد. وبحلول 22 يونيو، أفادت هيئة محامي دارفور بأن الجنينة قد سقطت. ووقعت المزيد من الاشتباكات في أوائل نوفمبر، وانتهت بهروب آخر ما تبقى من جنود حامية الجيش، إيذاناً بالنصر النهائي لقوات الدعم السريع في المدينة.
في الأشهر التي تلت ذلك، بدأت تظهر تفاصيل الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع وحلفائها في المدينة. ففي 13 يوليو، كشف تحقيق للأمم المتحدة مقبرة جماعية لعشرات المدنيين المساليت بالقرب من المدينة، يُعتقد بأن قوات الدعم السريع قتلتهم في الفترة ما بين 13 و21 من شهر يونيو.
اختار بعض السكان المساليت التوجه نحو ما اعتبروه مكاناً آمناً نسبياً داخل حامية الجيش بالقرب من أرداماتا، بدلاً من اللجوء إلى تشاد. وصف السكان تعرضهم لإطلاق النار أثناء عبورهم للطريق المؤدي إلى أرداماتا في 13 يونيو. قالت فاطمة، التي لم ترغب في ذكر اسمها الأخير: "ظهر العرب من مكان مجهول وبدأوا في إطلاق النار علينا"، مضيفة: "كان الناس يقفزون إلى النهر مع أطفالهم لتفادي الرصاص". وذكرت فاطمة أن ابنها فقد ذراعه أثناء إطلاق النار.
وذكر أبكر هارون، وهو عضو في مجموعة مكلفة بدفن جثث الضحايا، أن المهمة استغرقت أياماً. وقال: "أتذكر أنني عملت في أحد الأيام، من الساعة الثامنة صباحاً حتى الساعة السادسة مساء، مع زملاء يدفنون جثث الموتى في مقبرة بحي الشاطئ".
قالت سامية عثمان (ليس اسمها الحقيقي): "أحصيت 117 جثة أمام منزلي. اعتدنا القفز فوق الجثث للوصول إلى منازلنا".
لقي مدنيون عرب حتفهم في أعمال العنف. فقد قُتل العديد منهم في قصف من دبابات الجيش التي لا تزال متروكة في الأحياء التي يسكنها العرب. وقال موظف يعمل لدى الهلال الأحمر السوداني، ولا ينتمي إلى السكان العرب في المنطقة، إن عدد الضحايا لم يعرف على وجه التحديد بسب أن المجتمعات المحلية العربية لديها نظامها الخاص لتجميع الموتى. وزعم الأمير مسار عسيل، وهو زعيم عربي تقليدي يُتَهم بارتكاب جرائم ضد المساليت، أن عدد القتلى وصل إلى الآلاف.
قُتل أيضاً المئات من السكان المساليت في مذبحة وقعت في أرداماتا في 5 نوفمبر، عقب الانسحاب الكامل للجيش من منطقة الجنينة. ذكر شهود أن قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها انتقلت من بيت إلى بيت بحثاً عن الأشخاص من السكان المساليت.
ذكر جمال بدوي، وهو زعيم تقليدي يتبع للسكان المساليت في أرداماتا أن 236 شخصاً قتلوا في المنطقة التي يسكن فيها وحدها. متحدثاً بشرط عدم ذكر اسمه، قال رجل آخر يساعد في دفن الموتى: " كانت الجثث مكدسة فوق بعضها البعض مثل جلود الحيوانات".
يحكم ولاية دارفور في الوقت الحالي سلطة إدارية مقربة من قوات الدعم السريع. يحاول الوالي الجديد، التيجاني كرشوم، استرضاء السكان. دعا الوالي أولئك الذين فروا عبر الحدود التشادية إلى العودة، وعمل على توفير خدمات الكهرباء والمياه الجارية بشكل دائم، ولا تتوفر في المناطق التي يسيطر عليها الجيش إضافة إلى تطبيقه لحظر تجوال ليلي صارم يبدأ في الساعة السابعة مساء ويستمر حتى الساعة السابعة صباحاً.
عادت الحياة الطبيعية غير المستقرة إلى المدينة، على الرغم من الفظائع التي حدثت في الآونة الأخيرة. تم استئناف حفلات الزواج في عطلات نهاية الاسبوع، وتم تشييد المنازل في الأحياء التي يقطنها السكان العرب.
ومع ذلك، شكل وجود الاطفال المشردين في شوارع المنطقة تذكيراً بالأحداث التي وقعت في الماضي القريب. ذكر موظف سابق في وحدة حماية الطفل التابعة لبعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في ولايات دارفور أن معظم هؤلاء الأطفال إما أيتام فقدوا والديهم في العام الماضي، أو أطفال ينتمون إلى أسر هربت عبر الحدود إلى تشاد ولكنهم عادوا دون صحبة والديهم نظراً للأوضاع "المزرية" بمعسكرات اللاجئين في تشاد.
في يوم الجمعة الماضي، ذكرت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أن كلا الطرفين في الحرب الأهلية في السودان ارتكبا انتهاكات يمكن أن ترقى لجرائم حرب تشمل الهجمات العشوائية على مواقع مدنية، من قبيل المستشفيات والأسواق ومعسكرات النازحين.
لقد قررت الولايات المتحدة الأمريكية رسمياَ وبشكل فعلي أن الطرفين المتقاتلين ارتكبا جرائم حرب، وقالت أن قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها متورطة في أعمال تطهير عرقي في ولاية غرب دارفور. ذكر الطرفان أنهما سيقومان بالتحقيق في تقارير أعمال القتل والانتهاكات ومقاضاة أي مقاتلين يثبت تورطهم في هذه الأعمال.
في الوقت الراهن، يأتي التهديد الأكبر في مدينة الجنينة من الجو. في الوقت الذي يسعى فيه لوقف موجة تقدم قوات الدعم السريع، شن الجيش حملة ضربات جوية على المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع؛ مما أدى إلى نزوح جماعي جديد للسكان المدنيين في ولاية غرب دارفور.
ذكرت ليني كريستين، التي تعمل في برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن الأوضاع في مدينة الجنينة أدت، بشكل متزامن، إلى منع وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم. وقالت كريستين: "إن الحالة الإنسانية في السودان في الوقت الراهن ليست أقل من أن توصف بالكارثية."، مضيفة: "تضرر الملايين من الأشخاص من الصراع، وهم يكابدون الآن لإطعام أسرهم. نحن نتسلم بالفعل تقارير بوفاة أشخاص بسبب الجوع، لكن القوات التي تعرقل عملية الوصول تجعل من الوصول إلى المناطق التي يحتاج فيها الناس إلى مساعداتنا الماسة أمراً صعباً للغاية."