كتابة ضد النسيان
خاص "مواطنون" ـ سارة الجاك
(عندما لاتجد شغفك تتقاذفك الجهات)
بعد التخرج في العام 2002 عملت في عدد من الوظائف المتعلقة بالهندسة، من بينها كنت مهندسة مطابخ. كنت إطلق تلك الصفة علي نفسي من باب التهكم، إذ لا توجد وظيفة يمكنها استيعاب خستكتي، وعدم التزامي بالمواعيد المكتبية.
المعمار يستغرقني في حالتين، التصميم في حد ذاته وليس الرسم او النقل، هذا نادرا مايطلب منا في سوق العمل اليومي لشركات متوسطة كالتي كانت تستوعبنا، الثاني العمل في الموقع مباشرة مع الناس، ومتابعة انزال ما بالورق الي واقع علي الأرض خطوة بخطوة ممتعة، وتهديك درجة مناسبة من الرضا. تنقلت لفترات مختلفة بين وظيفة مكتبية لأخري الي وظائف المتابعة التنفيذية.
في واحدة من تلك الوظائف كنت مهندس مطابخ المونيوم في شركات محمد عبد الحليم. تنقلت بين فرعيه فرع الخرطوم 2 جوار جريدة الايام وفرع بحري المؤسسة. في فرع بحري كنت وزميلتين نتناوب في فترتي عمل صباحية تبدأ في العاشرة لتنتهي في الثالثة والنصف، وتبدأ الفترة المسائية تبدأ في الثالثة والنصف لتنتهي في التاسعة والنصف لنقل العاشرة. نصف ساعة لمراجعة اخر الحسابات والاعمال التي سترافقنا في الغد، والتأكد من سلامة العناوين في كل الدفاتر. كان جهاز الكمبيوتر موضوعا كأنتيكة او ديكور ظريف، لأننا في الغالب نصمم بالورقة، والقلم العاديين تفاديا لغلاظة الطابعة التي تعمل بمزاجها.
في تلكم الأثناء كنت أقيم أغلب الوقت في المنزل الذي ولدت فيه جدتي لأمي، وفي ديوم بحري، تحت شجرة النيم العتيقة، يجلسون لشرب الجبنة، وصنع الطعام ونمضي النهارات صيفا وشتاء هناك. من ألح الأسئلة التي فرضت نفسها علي في تلك الفترة سؤال من نحن؟
حاولت بقلة حيلة معرفية وأفق محدود الإجابة علي هذا السؤال، سؤال الهوية، مستندة علي روايات تاريخية من المقرر المدرسي المغرر بنا به. كتبت "المعتقة" رواية لم ولن تنشر. كتبت "المعتقة" علي كمبيوتر محمد عبد الحليم للالمونيوم فرع بحري المؤسسة، اثناء مراقبتنا للعرسان الخارجين من صالون الحلاقة المجاور، او للعروسات من الكوافير المقابل، او نحن نتبادل النميمة حول فتاة ولهانة مشرورة من قبل حبيب واعدها ولم يأت في الكافتريا القريبة.
كتبت منها صفحة واحدة قرأها جارنا في المعرض وكان يبيع ثلاجات الكولدير بالتقسيط وقال لي، أكتبي وواصلي، فأن الاقلام النسائية قليلة. اكتبي وارفعي اللثام عن عوالمكم المدسوسة، علنا نفهم/كن، ولأن الكل يغني علي ليلاه. كتبت "المعتقة" للاجابة علي سؤالي الذي يؤرقني، وهو ينتظر الكشف عن عوالم النساء المخفية.
نضدتها في محل انترنت في مزنين اعلي الكافتريا التي يلتقي فيها المحبين. طبعت منها النسخ الثلاثة المطلوبة من لجنة مسابقة عبد الكريم مرغني للرواية للعام نفسه. طبعتها بمبلغ مئة جنية، دفعها ابي وقد كانت محفوظة للطوارئ، في وقت رأت فيه امي أن ما أفعله محض هراء. كتبت بعض فقرات "المعتقة" بالورقة والقلم تحت شجرةالنيم بين استهزاء خالاتي وصديقاتي، لكني لم التفت لهن وقتها.3 بعد اعوام عرفت ان جارنا في معرض المؤسسة بائع ثلاجات كولدير بالتقسيط، كان استاذا للمسرح في احدي الجامعات. أصابني الملل وتركت العمل في المعرض، وبعدها باشهر قليلة تم تصفيته، وتحول نشاطه من الالمونيوم الي نشاط اخر لا أذكره.
ركنت للهدوء في منزلنا بالحاج يوسف بعض الوقت. عدت الي الفتاة بنت الحلة التي لا تنتظر شيئا. يمر الوقت وانا الوك دقائقه، مابين الالتزامات العادية والعناية بأنوثتي. ارتب مقتنياتي البناتية كل يوم بطريقة مختلفة، واحتفي برائحة العطر الذي ارشه علي الملابس. أكره الشتاء من بين الفصول، اكره الساعة الضبابية قبل أذان المغرب. أقضي النهار نائمة بعد العودة من جيراننا "ناس النعيم" كل ظهيرة. كنت اتابع الملفات الثقافية الإسبوعية لكل الصحف، ماعاطلة كمان. وقد تجاسرت يوما وكتبت قصتين. تم ابعاد الأولي لأنها كتبت علي صيغة الخاطرة، اما الثانية فحظيت بالنشر في مساحة اصوات جديدة لصحيفة الصحافة في مايو من نفس العام. لم افز بجائزة الرواية لذلك العام. لا يمكن ان تفوز رواية وهي تجاوب علي سؤال كبير، بمقدرات كتابة طفولية. في يوم 19 نوفمبر رن هاتف المنزل، وانا ما بين اليقظة والنوم، اتقلب في فراشي تحت النافذة المطلة علي شجرة البرتقال، ورائحة نوار ثمارها الجديدة عابقة في الجو. قبلها تبادلت بعض الكلمات مع جدي عبد الجليل قبل ان اناوله كباية شاي الفطور. كنت مسترخية وهادئة كنت اول من الح ان يكون لنا هاتف. كان رقمه من ضمن البيانات التي ملأتها في استمارة عبد الكريم مرغني عند التقديم للرواية. اجبت علي المتصل كان صوته رصينا:
- السلام عليكم بسأل من الأستاذة سارة الحمزة الجاك
قلت: وعليكم السلام
من هنا بدأت الحكاية، حكاية الحياة والأصدقاء. ما الحياة الا مجموع حكايات وأمنيات.
كان المتصل ذو الصوت الرصين هو الأستاذ وليد سوركتي والذي ارتبط إسمه بالسنوات التالية، مشجعا ومحفزا ومبشرا. كنت قد نسيت أمر الجائزة، وحنقت علي الفائزين بها، أمارس يومياتي التي تبدأ بمسامرتي مع جدي وكباية الشاي الصباحية، وبعض مراسيل أمي، وتجهيز عدة جبنة حبوبة نعومة. كنت وقتها لا أشرب الجبنة ولا أحب الشاي. تعجبني طقوسهما وتلك الجلسة الحميمية الجامعة، التي كانت سببا في إقعادنا عن نجاحات متوهمة كانت تنتظرنا. كانت هذه نظرتي لتلك الجلسة. الأن وبعد عدد من السنوات علمت أنها كونتنا، ولولاها لتهنا في صحراء بني إسرائيل.
نعود لإعداد جلسة الجبنة (القهوة) تحت البرتقالة اللارنجة ذات الأريج في الحوش الخلفي من المنزل. تربط تلك المساحة مابين مطبخ أمي وزقاق حبوبة نعومة. ولفرط الود بيننا نناديها بإسمها مجرداً، نعومة. كما تطل عليها البرندة ونافذتها التي تمثل نافذتي علي العالم لسنوات قادمات. اهم مايميز تلك المساحة أنها مفروشة برملة تتجدد من فترة لأخري. أحمل مكنسة السعف متوسطة الطول. فالطويلة الجديدة لغرف البلاط والبيت الجوة، والمتوسطة للرملة والقصيرة لبيت الأدب. المتوسط لأن حنقوقها قصر ولم يمت بعد، حريفة في فرز السفاية من رمل الأرض. أمد خرطوش الموية، أغسل اللارنجة من غبار الأمس، أهديها ندى فتهديني عطرا، أتشربه أريجة أريجة، فأكون جزاء منها. أكمل رش الحوش كاملاً، وأمتص رحيق الأرض، خطوات أهل البيت ذكرياتهم وأغانيهم، عندما اصل الباب، تجف الأرض قليلاً، فأحمل مكنستي ناعمة الحنقوقات، أربت بها علي ذرات الرمل أجمع المودعات من اوراق اللارنجة وبعض أوساخ أتي بها الهواء. لا يستغرق ذلك الكثير من الوقت، تأخذ نعومة مكانها قرب باب المطبخ وتبدأ في المناداة
السرة وينه المنقد؟
أتيه بها وانا أنقنق يانعومة قبل ما تقعدي جيبي حاجاتك ياخ
يابت هوي خلي المسخرة دي.
وأناولها كل العدة واحدا تلو الاخر، الشرقرق والجبنة، المصفاة. مرات كثيرة نكون وحدنا. هسا انت الجبنة تشربيها براك؟ تجيب دون أن ترفع رأسها من نظافة البن، الجبنة بتجيب ناسا. يضاف لأريج اللارنجة، رائحة الجمر الأحمر من قبل ورائحة قلوة البن من بعد، ليتضمخ الجو بعطور تجعل للحوش الخلفي صبغة خاصة. رائحة مميزة لا يعرفها الا من خبر ذلك المكان، سكنا او ترددا عليه. في برهة من الوقت يضوع عطر ذلك المكان ليشمل المنزل، فيخرج من كان بالداخل في الغرف، ويدخل من كان خارجه. الجارات المارات، الشباب العاكفون في مسطبة أولاد عيسي، وتضج الحلقة بالمؤانسة، وتبادل الأخبار الصباحية. كان نصيبي من المجلس دائما عتبة المطبخ، أجلس عليها لأنها منطقة وسطي مابين طلبات نعومة والحوش. يستمر ذلك السمر، تزحف الشمس عليه ونزحف تحت الحائط المطبخ، ويظللنا رقراق اللارنجة الحنينة. أخذتنا الحكايات ونسينا الهاتف. لنعد إذن كان مفاده دعوة للمشاركة في ورشة لكتابة الرواية، تقدمها الروائية الفرنسية الجنسية، لبنانية الأصل الأستاذة نجوي بركات، الورشة التدريبية كانت بالتنسيق بين مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي والمركز الثقافي الفرنسي قبل ان تعد محترفها ليكون ضمن انشطة افاق.
نعود الي الصوت المرسل عبر الهاتف، مستفسرا سارة حمزة الجاك؟
نعم أنا هي، تم ترشيحك للمشاركة في ورشة الكتابة الإبداعية التي ستستمر لثلاثة أيام. ستبدأ بعد غد في الثالثة ظهرا بالمركز الثقافي الفرنسي، ذلك المزار الذي كان يمثل لي مكان عصي علي أن أطأه وأنا فاعلة فيه. سأدلف إليه دون أن أنظر الي مرتاديه بعين السائح، قلت لصديقة من قريباتي، أرتب نفسي لورشة تدريبية عن الكتابة في المركز الفرنسي، وووب علي محل البنات المطلوقات؟ كانت تلك ردة فعلها. أنا :- لا لا ياخ دي مكان تعليم اللغة الفرنسية وواصلت تعريفها بالمكان، كانت تعرفه عن ظهر غيب، وحكت قصة إسطورية عن زائري المكان وطلابه، سألتها هل زرتيه يوما؟ ضربت صدرها بكفها مستنكرة انا؟ بري.
اليوم المشهود الحادية عشرة ظهرا، كلْفتّ من (كلفتة والكلفتة تأديه العمل بلا إكتراث)، ماتبقي من تفاصيل جبنة نعومة واللارنجة وكل الطلس المنزلي، هدوء وترقب حدث أتي، لم أكن أعلم أنه حدث سيغير مجري حياتي، مجرى رسمه أخرون، لم أكن جزء منهم إلا بالتثنية. دولاب أنثوي مرتب بعناية هندسية، راعت تدرج الألوان في رص الملابس، والأطوال في ترتيب قوارير العطر، وقفت أمام الخيارات المرتبة، وقع الإختيار علي الإسكيرت البني المحروق، المصمم علي شكل سمكة. تصميم يهديني سنتميترات إضافية، قميص بلون قمرديني اللون القمرديني هو برتقالي مضاف ليه أسود نقطة كدة مع وزنة أحمر ماعلينا. يتم شراء الطرحة متناسقة ولون اللبسة من وقت سابق، الشئ الذي يجعل تمييزها وتضمها للبسة امرا آلياً. أكملت تفاصيل تهيئتي للخروج كما يجب، ومن لطف المكان أنه كان يحتاج الي مواصلات واحدة ومن لطف الزمان انه كان عكس زمن خروج الموظفين العائدين للمدينة او قريب من ذلك. وصلت المكان في الزمن المحدد تماما. فتحت الباب وعلي محياي إبتسامة محايدة ولا توقع، مما جعل شعوري هو شعور أقرب للإستكشاف. لا أذكر من كان علي مقاعد الإستقبال ولكنه إنسان مكسو بلطف محبوب، إبتسم ثم أشار الي مدخل القاعة علي بعد خطوتين من مكان جلوسه ذاك.
القاعة عبارة عن غرفة زجاجية، تتوسطها طاولة إجتماعات بعدد إثني عشر كرسي. نجوي بركات تجلس في الكرسي المقابل للباب مباشرة. دخلت القاعة، القيت عليها السلام وردته بأحسن منه. جلست بجوارها يسارا، وأخذنا الحديث الي ثم توافد البقية تباعاً. تبودلت التحايا العامة، ثم بدات الجلسة الأولي بالتعريف. عرّفتنا عن نفسها وسيرتها الذاتية وعزمها علي التدريب في مجال كتابة الرواية، ثم تعرفت علينا وكنت آخر المتعرفين، لأننا بدأنا التعريف من اليمين وحيث جلست أماني ابو سليم، وسلمي الشيخ السلامة. إعتذرت رانيا مامون لإقامتها بمدني.
شارك أيضا كل كتاب القصة المميزين والذين لمعت أسماءهم من قبل لقائي بهم ومازالت، لمعت داخلي روح جديدة لم أتعرف عليها من قبل، روح المعرفة المتعطشة الي الإكتشاف. روح ظلمتها كثيرا وانا اجبرها علي القعود في مدرجات قسم الهندسة في كلية الخرطوم التطبيقية، روح الزمتها أن تلبس وجه المهندسة، الذي لم يكن لائقا عليها ولن يكن. الوظيفة التي لاتمثل شغفك، تشبه زوج امك، لانها تسد رمقك فقط، رمق المعرفة المعنوية او رمق الدخل المادي المتعارف عليه. انا من مكاني هذا اعتذر لذاتي الكاتبة. اسألها العفو علي ما سببته لها من ألم وحزن في رحلة تيهها وضياعها، لا اسوق المبررات ولكني كنت أجهل الطريق. كنت أجهله حقا. لو كنت أعلم ما آذيتك. لو كنت أعلم، كنت سأفرش الطريق رملا ووردا. تشربت روحي المتعطشة كلمات المدربة كلمة كلمة وحرفا حرفا. سألتني هل تكتبين الرواية رغم حداثة عمرك وتجربتك؟ قلت لها لست صغيرة، لكني حديثة تجربة بكتابة الرواية. منذها عملت علي أن توازي تجربتي الكتابية خبراتي الحياتية، أما الأن لم يعد الأمر يؤرقني، لتفعل الكاتبة ما تشاء وكذلك سارة لها خياراتها. بعدها توالي نشر قصصي في الملفات الثقافية المختلفة بعد أن ازيحت عبارة أصوات جديدة. عدد من التجارب بعدها عززت مكانة الكتابة وجودها ومواقفها، أهمها محطة صحيفة الأيام ونادي القصة السوداني.