وعي الثنائيَّات الاستبعاديَّة وأُفق الرِّواية البديلة
د. راشد مصطفى بخيت
إذا تمعنَّا دلالة العبارة (الفوكويِّة) المضيئة حول مفهوم الخطاب، كون أنّه ليس ما يقوله الشخص/ النّص/ أو الكتابة فحسب، بل هو ما يسكُت عنه هذا القول أيضاً، يتكشَّف لنا أنَّ المشكلة الجوهريَّة في خطاب الكراهيَّة على وجه التحديد: هي مشكلة نسق متكامل من رؤية العالم. استضمار الحامل للمحمول الذي ليس بالضرورة مقولاً في كل الأحوال، لكنه محدِّد أساسي لكل ما يقال/ أو لكل ما يتم التفكير فيه.
نعني بالحامل هنا وعي الهويَّة الذي ينبني على مقولة الضد كمقولة محورية في تعريف معنى الذات وجودياً. بالتالي يأتي المحمول في صورة خطاب/ أو خطابات لا تعرف نفسها إلا في سياق انتقاص حتمي من قيمة الآخر المختلف.
يستبطن خطاب الكراهيَّة للمحو باعتباره الطريق الوحيد نحو البحث عن صيغة للتماثُل بين الصورة والمثال. الصورة التي يرسمها الإنسان للعالم من حوله والمثال الذي يصبو لمحاكاته بغية كمال غير موجود. دعنا هنا ننظر مثلاً إلى كُل محاولة لإسكات صوت الإختلاف باعتبارها غرس مستقبلي لبذرة كراهيَّة محتملة، كل ممانعة لتجاوز أفق الهويَّة الصمدة كديمومة لثنائيات عقل لا ينظُر إلى الوجود كوحدة بل يميل إلى قولبته في صيغة ثنائيَّات بسيطة تعمل على اختزال جوهر الإختلاف والتعقيد المتأصِّل في كل وجود: ثنائيَّات مثل ثنائيَّة الكثرة والأقليَّة، الأسود والأبيض، الريفي والمديني، المتعلِّم والجاهل، العربي والأفريقي، المتديِّن و غير المتديِّن، النقي والمختلط؛ هي على الدوام حاضنة ذهنيَّة لبيضة نفي واستبعاد قابل لفقس دودة كراهيَّة عند أول منعطف للمواجهة بين النقيضين.
إذا نظرنا وفق هذه الرؤية المفارقة لمشكلة الأقليَّات حول العالم على سبيل المثال، ربما يذهب بنا الوعي إلى أسباب كثيرة لوصمها بدونيَّة ما مستندة على أفكار مشتقة من توابع هذه الثنائيات، لكن عندما نعود إلى الوراء قليلا مع (ويل كيميلكا) سنجد أن هذه الأقليات لم تنشأ في عالمنا الحديث إلى ضمن صدف حتمها رسم الحدود الدوليَّة للأقطار واصمة تلك المجموعات التي بقيت في الاتجاه الخاطئ من الخريطة!
ربما لم يكن وصم البني عامر بالخارجيَّة عن السودان ممكناً لو لم تُرسم الحدود بين السودان وأرتريا على هذا النحو، وربما لم يكُن النظر إلى المساليت في غرب السودان أو الحوازمة في نواحي بحر العرب أو الأُدوك في جنوب النيل الأزرق أو كنوز كورسكو الغارقة في بحيرة السد والمعاد توطين أهلها ضمن نوبة كوم أمبو أو نوبة العين السُخنة. يستبطن هذا القدر من الاستبعاد لولا رسم هذه الخريطة الخاطئة. لكن هذا لا يمنع بالطبع من القول أن لميكانيزمات الوصم والاستبعاد هذه عوامل أخرى كثيرة مثل الهجرات و ميل البشر الطبيعي للحركة والتنقُّل بغية كسب الرزق أو استكشاف العالم أو نتيجة تفاقم طارئ وانفجار ما للأوضاع في مناطق سابقة، حروب داخليَّة، موجات جفاف وتصحُّر، نزاع حول الأرض وخلافه من أسباب أخرى عديدة وأكثر تعقيداً من بساطة تلك الثنائيات.
هذه الحواضن الأوليَّة لخطاب/ خطابات الكراهيَّة المتفشيَّة تنمو أيضاً ضمن وجود آخر لفكرة الهامش المستبعد من لدُن مركزيَّة ما: مركزيَّة اللغة و هامش "الرطانات"، مركزيَّة العرق النقي الحُر و هامش خبوب الخلائط من العبيد، مركزيَّة الدين الصحيح وهامش المعتقدات الضالة وخلاف ذلك من المركزيَّات المتضخمة التي لا وجود لحيز الهامش دون تناميها الظالم المطرد. إذ ينتج المركز فوارق نوعيَّة تسهم في صياغة ترميز تضليلي يهيئ الذات لاستبطان مقولة الآخر القليل أو الآخر المختلف كآخر لا يستحق التقدير اللازم بدعوى العدد أو بدعوى اللون واللغة والدين والجنس وخلافه من دعاوي أفق الهويَّة الواحدة الصمدة التي لا تجد بُداً من ربط أحقيَّة وجودها بضرورة إزراء الآخر. و ذلك لأنّ خطاب الكراهية هو أيّ نوع من التواصل الشفهيّ أو الخطيّ أو السلوكيّ، ينطوي على تهجّم أو يستخدم لغة سلبيّة أو تمييزيّة عند الإشارة إلى شخص أو مجموعة من الأشخاص على أساس هويّتهم، أيّ على أساس دينهم أو عنصرهم أو جنسيّتهم أو عرقهم أو لونهم أو نسبهم أو جنسهم أو أيّ عامل أخر يحدّدهم. وغالبًا ما يكون متجذرًا في التعصّب والكراهية ويؤدّي إلى تفاقمهما، وفي بعض السياقات، قد يكون مهينًا ومسببًا للانقسامات كما جاء ذلك في تعريف الأمم المتَّحدة له.
من جهة أخرى نجمت هذه الاستبعادات الفرعيَّة بالضرورة من استبعاد آخر افترضته الحداثة الأوروبيَّة في نفسها بذريعة بُدائيَّة موجبة للاستعمار الهادف إلى تمدين الشعوب المتخلِّفة أو شعوب الجنوب. لماذا يتَّخذ الجنوب هذا الوصم الدوني حول الكرة الأرضيَّة بأكملها؟ هل الخطأ في البوصلة أم في عملية الوصم التي نتجت من فعل الاستعمار نفسه؟ هذا الإلحاق القسري لاتجاه جغرافي باتجاه آخر منافٍ لمنطق التطوُّر الذاتي و مرذول بأوالية الوصم نفسها من جهة أخرى. يتطلب محو خطاب الكراهيَّة بالضرورة السعي لإنتاج روايات بديلة غير التي تمَّ انتاجها ضمن ميكانيزمات وعي التمركُز والاستبعاد،فلأي خطاب كراهيَّة حوافز كامنة مثلما ينبغي أن تتوفَّر هذه الحوافز لمقومات مناهضته. علينا التفكير في فوارق التنمية وفوارق التعليم وفوارق الإدماج في بنى ومؤسسات الدولة كمحفزات كأسباب جوهريَّة لاستشراء هذا النوع من الخطاب الفاشي، وعلينا بناء وعي الرواية البديلة بناءً على معطيات الواقع المحسوس المنحاز لحقيقة أن الوعي الحديث بكامله هو طرف أصيل في استدامة هذه الفوارق المصنوعة بقلم التعليم النظامي في المدارس والجامعات لأنَّه بالأساس وعي الثنائيات الاستبعاديَّة لمقولات الآخر!