12/07/2024

بعد عام من التهجير.. شهر مع الأهل والأحباب في السودان

طارق عبدالله
في الجزء الجنوبي الغربي، وعلي مسافة حوالي 16 كيلومتر غرباً من ساحل البحر الأحمر، هبطت بنا الطائرة في مدرج مطار بورتسودان الخالي إلا من طائرتين واحدة تحمل شعار بدر والأخرى تاركو. وعلي الناصية الشمالية ثالثة صغيرة يتحلق حولها مجموعة من الشباب غالبيتهم في منتصف العمر يرتدون بذات سوداء، حالهم ينبؤك بأن حال البلد ليس علي ما يرام. يتصببون عرقاً من حرارة الطقس، يقطعون المسافة جيئة وذهاباً بين باب الطائرة وباب يقع في آخر المطار، حيث توجد سيارتان مطليتان باللون الاسود الداكن ماركة مارسيدس التي تظهر في شاشة التلفزة والاخبار علي متنها الرؤساء وكبار الشخصيات والمسؤولين.

خرجنا من سلم الطائرة متجهين إلى صالة الوصول، لنقف عند واحدة من أصل ثلاث نوافذ مخصصة لضباط الجوازات لنكمل أنا وابنتي الكبري إجراءات الدخول المطلوبة في وقت وجيز. غادرنا المطار بعد ان حملنا حقائب سفرنا متعجلين لنبدأ رحلة جديدة قطعنا فيها مسافة تقارب الألف كيلومتر نحو شمال السودان، حيث نزحت جزء الأسرة التي توزع من بقي منها على قيد الحياة بين المنافي وأمدرمان وشمال السودان.

كنا نحاول أن نقطع أكبر مسافة من الطريق قبل حلول الظلام ونضطر إلى قضاء الليل في الطريق بسبب حظر التجوال أو تفادي القيادة في وقت متاخر.

علي الطريق لم نشاهد حركة للشاحنات أو السيارات، كما كان عليه الحال قبل اندلاع الحرب. فليس هناك حركة للصادرات والواردات والقليل من السيارات التي نجت من السرقة يحتفظ بها ملاكها ربما تعينهم علي الفرار مرة اخري إذا ما اضطرو أو بيعها إذا ما المت بهم نوائب الدهر.

علي طول الطريق كنا نتوقف عند نقاط التفتيش التي نصبها الجيش، والتي فاقت في عددها العشرين، ليطلب منا السماح لبعض الجنود الركوب معنا للوصول لي وجهة ما أو مشاركتهم بعض الماء والطعام. كنا نري جنودا عليهم آثار التعب والمسغبة يجود عليهم المارة ببعض الماء والطعام علها تقيهم شر الحر تمدهم ببعض من طاقة.

وعلي قارعة الطريق لا تغيب عنك مشاهد النازحين الفارين من مناطق وصل اليها الاقتتال حديثا يحمولون أمتعتهم. هذه المشهد المأساوي علي بعد عشرات الكيلومترات من بورتسودان حيث تقبع قيادة الجيش أي اننا لم نغادر حدود الولاية أو العاصمة المؤقتة بعد.

خلدت إبنتي هنا إلى النوم في المقعد الخلفي للسيارة بعد أن أصابها الرهق من رحلة استمرت أكثر من ثمانية عشرة ساعة علي الطائرة، وستة ساعات علي طول الطريق بين بورتسودان وعطبرة حيث توقفنا لأخذ قسط قليل من الراحة والتزود ببعض الماء والوقود. غادرنا عطبرة عبر كبري أم الطيور متجهين إلى حدود الولاية الشمالية. كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر والحركة علي طول الطريق تكاد تنعدم، ربما بسبب ارتفاع درجات الحرارة أو تجنب السفر في المساء الذي تزيد فيه عمليات التدقيق والبحث لأمتعة ومتعلقات المسافرين مما اثار حفيظة ابجيقة السوداني الذي لم يبدو مرتاحا لمنظر بحث الجنود لهاتفه وفحص الصور والفيديوهات فبعضعا ربما شخصي.

وصلنا الولاية الشمالية بعد حلول الظلام، وعند منطقة الكوة توقفنا مرة أخرى لتناول القهوة. وما أن جلسنا انغمس مرافقنا في الحديث مع الجنود في نقطة التفتيش وصاحب القهوة، بينما كنت مشغولاً بترتيب المقعد الخلفي الذي تنام عليه إبنتي بعض أن ملت منظر الصحراء واشتد عليها الإلتهاب. إلتفت إلى حيث تجلس المجموعة في انتظار القهوة لأرى عقرباً تركض مسرعة نحو الجالسين. انتفض شعر جلدي وصرخت (عقرب قومو فوق). انتفض الجميع وعاجلها صاحب القهوة بحذائه. بعدها شكرني احد الجنود وذكر لي إنني الشخص الثاني في هذا اليوم ينقذهم من لدغات العقارب في ذلك المكان. تذكرت إن واحدة من معالم شمال السودان وشمال افريقيا انتشار الزواحف والحشرات السامة التي تنشط في المساء بحثاً عن فريسة، وتختبي من حرارة الطقس في النهار فحمدت الله ان ابنتي فضلت البقاء في السيارة والنوم علي اللعب في ذلك المكان.

أخيراً وصلنا وقابلت والدتي، حفظها الله، بعد افتراقنا منذ عام أمام منزلها في شمال أمدرمان لنبدأ رحلة نزوح جديدة.

حال الإقليم الشمالي كحال مدن وقري السودان التي لم تشهد اقتتال بعد. تعج مدنه بالنازحين وتشكو شح الموارد والطعام. اعتاد الجميع اتباع نمط غذائي غير صحي تماشيا مع أوضاع الحرب، مثل تقليل عدد الوجبات لتصل إلى وجبة واحدة خالية من التنوع في تطبيق صارم لمفهوم (adopting negative coping mechanisms) الذي انتشر في ادبيات المنظمات الاغاثية المشغولة بقضايا الطعام والغذاء كبرنامج الاغذية والزرعة العالمي المعروف اختصارأ بالفاو وبرنامج الغذاء العالمي، ومعناها تكييف الإنسان مع أوضاع ضاغطة بتطبيق استراتجية تهدف للنجاة لأطول فترة ممكنة في ظل ظروف غير طبيعية.

وهو ما يفسر بعض المشاكل الصحية التي بدأت تطرأ علي من بقي الشعب السوداني داخل الوطن، مثل نقص فيتامين A المعروف محلياً بمرض (العشي الليلي) الذي يعاني منه معظم الجنود والضباط في المواقع العسكرية المحاصرة. وهو ما يفسر عدم قدرة اولئك الذين نجو من لدغات العقارب في نقاط التفتيش، في طريق قدومنا بمساعدة المارة، من رؤيتها خلال الظلام, حتي ابنتي لم تنجو من هذا الحال بعد أن تكالب عليها ثلاثية المرض وحرارة الطقس وتغير المكان. فلم تجد ما تستسيغ من طعام غير بسكويت الطاقة للوقاية من أمراض سوء التغذية الذي يقدمه برنامج الغذا العالمي للاطفال. فالمجاعة قد كشرت عن أنيابها وبدأت تأكل في بني السودان يد بيد مع الحرب.

لم تعد حكايات بث الروح المعنوية والتربية العقدية تجدي مع اشتداد الحال. ففي إحدى المرات ذكرت ابنة أخي إنها غير راضية عن ساندوتش الفلافل، الذي يصعب مضغه وابتلاعه في المدرسة اثناء وجبة الفطور، إضافه إلى إنه غير مشبع (حتي إن قلت بسم الله الف مرة)، اشارة إلى الرواية المتناقلة لدي أهل السودان، التي تقول إن الشيطان يأكل طعامك ويتركك جائعاً إذا لم تبدأ تناوله بعبارة (بسم الله) التي تقابلها كل انت وشيطانك في مواسم الوفرة...!

من المدهش أن الواقع المعاش على الأرض بعيد كل البعد عن ما يجري علي مواقع التواصل الاجتماعي. والغالبية ليس لديهم هذه الرفاهية وأخبار هذا أو ذاك، ونقاش هذا أو ذاك، وصحة موقف هذا أو ذاك. كل الذي يرجونه أن تتوقف الحرب قبل أن تصل إليهم فيطالهم شرها المباشر أو غير المباشر، كحوداث النهب والفوضى التي تعقب دخول قوات الدعم السريع وسيطرتها علي المدن والحاميات العسكرية.

انقضت فترة الإجازة وعطلة العيد، وعدت إلى العمل بجواز سفر منتهي الصلاحية عليه ختم التمديد. فقد حاولت الحصول علي الجديد لمدة شهر دون جدوى. وفي طريق العودة فقدت حقائب سفري التي تم العثور علي إحداها وإبلاغي بأن الأخري ربما فقدت في مكان ما بين فرانكفورت والقاهرة وبورتسودان. قلت في سري ربما قد استطاع بخور الوالدة أن يعمل قبل اشتعاله ليعيد الحقيبة إلى الوطن في انتظار صاحبها…!

معرض الصور