17/07/2024

مثلثا شرق السودان.. أضلاع الحرب وزوايا السلام

أمير بابكر عبد الله

مقدمة
مثلثان يربطان إقليم شرق السودان بثلاث دول تجاوره، هي مصر وإثوبيا وإرتريا. ويمثلان رمزاً لعلاقات أزلية ممتدة عبر التاريخ تخللتها التوترات والنزاعات والاستقرار والحروب والسلام، يعتمد ذلك على العوامل المؤثرة في كل عصر أو مرحلة والتغيرات الديموغراقية والجيوسياسية والاقتصادية المرتبطة بها. تلك التغيرات هي ما يحدد ملامح كل عصر أو مرحلة تاريخية.

لن نتناول في ما نكتب الآن أحداث موغلة في التاريخ البعيد او القريب، وإنما الواقع الراهن في أبرز تجلياته وتداعياته، فقبل الاستقلال عن المستعمر ورسم الحدود السياسية لتلك البلدان كانت هذان المثلثان لها وجودها جغرافياً منزوعة من بعدها السياسي.

مثلث الحمرة حمداييت أم حجر هو الصُرَّة التي تربط بين ثلاث دول (إثيوبيا، السودان وإرتريا) ظل طابعها من منتصف القرن الماضي عدم الاستقرار والحروب الداخلية والنزاعات فيما بينها. هذا المثلث الذي يخترقه من القلب نهر سيتيت الذي ينتهي مساره في نهر عطبرة ومن ثم النيل، ساهم في وضع حدوده المستعمر مخلفاً وراءه، بعد خروجه، غير التوترات الحدودية كثيراً من التعقيدات الأمنية والسياسية والاجتماعية. ولأن أوضاع هذا المثلث "بدوله الثلاث" تلقي بظلالها على مجمل المشهد في القرن الأفريقي وكذلك على أمن البحر الأحمر، لابد من إلقاء نظرة على التعقيدات التي تكتنفه والبحث في تقاطعاتها التي دائماً ما تقود إلى التوترات والنزاعات مع التحولات والتطورات الجيوسياسية المؤثرة عليها.

في ذات الوقت يمثل مثلث حلايب، الخاصرة التي تربط بين دولتي السودان ومصر. وهو أيضاً مثلث ظل مقياساً لطبيعة العلاقات بين البلدين، ولكنه على خلاف الأول، لا زال النزاع حول السيادة عليه متنازع بين الدولتين فبينما تضع مصر يدها بالقوة عليه منذ أحداث محاولة اغتيال الإسلاميين للرئيس المصري حسني مبارك، كان منذ استقلال السودان يتبع له ويعتبر دائرة انتخابية للبرلمان السودان في عهود الديمقراطية. كما يؤثر هذا المثلث، رغم بعده الجغرافي النسبي، على المثلث الآخر في السياق السياسي والأمني. وهو ما سنتناوله في ورقة منفصلة.

علاقات متناقضة
يبدو المشهد مربكاً للمراقب؛ ويتطلب تفكيك صور العلاقات السياسية والاجتماعية داخل الإطار الواحد لقراءتها من زوايا مختلفة، وهذا لن ينجيه من لعبة المتاهة التي سيغرق في تفاصيلها.

بالعودة قليلاً للوراء، وجدت الثورة الإرترية في مواجهتها للاستعمار الإثيوبي، دعماً شعبياً كاملاً من السودانيين على المستوى الشعبي وفي المقابل كان الدعم الرسمي يتأرجح على حبل العلاقات الثنائية بين الدولتين "السودان وإثيوبيا"، دعماً للثوار وتضييقاً عليهم. وكنموذج لهذه الحالة من التأرجح ننقل عن عرض وتلخيص الدكتور بدر الدين حامد الهاشمي في موقع سودانايل لمقال لـ"بليتي بلاشيو يوهين" بعنوان "علاقات أثيوبيا المتوترة مع السودان بين عامي 1956 و1983م:
"أشد فترات الحكم بالسودان التي تضخمت فيها تلك المشاكل – يقصد بين السودان وإثيوبيا- كانت هي فترة حكومات الأزهري، ثم سر الختم الخليفة، ثم نميري، حين تضاعف دعم السودان للمتمردين الإرتريين، وانتقمت إثيوبيا لنفسها بدعم متمردي جنوب السودان، حتى يمتنع السودان من التدخل المباشر في مشكلة داخلية تخص دولة مستقلة ذات سيادة".

وفي ذات التقرير يشير الكاتب إلى حدوث تطور في العلاقات الرسمية بين البلدين في عهد الرئيس نميري في بداية الثمانينيات من القرن الماضي "دعت حكومة نميري إثيوبيا لعقد محادثات سلام بين البلدين، وبالفعل قامت حكومة السودان بالتضييق على الإرتريين بالسودان، وأوقفت الحملات الإعلامية على إثيوبيا، وسعت نحو لإقناع الحكومة الإثيوبية بطرد المعارضين لحكومتي البلدين الذين ينشطون في بلد الآخر. وكبادرة لحسن النية، دعا السودان إثيوبيا لحضور مؤتمر "الاتحاد الاشتراكي السوداني" المنعقد بالخرطوم في 25 – 30 يناير 1980م، ولم تقدم الدعوة - هذه المرة - لحركة تحرير إرتريا كما كان يحدث سابقا. وتم تنشيط أعمال كل اللجان المشتركة التي كانت قد توقفت".

في العام 1974 أطاح الجيش الإثيوبي بالأمبراطور هيلي سيلاسي، بعد المجاعة التي شهدتها المنطقة وأدت إلى اضطرابات شعبية واسعة. وأقام الجيش ما عرف بنظام "الدرك" موجهاً بوصلته ناحية الشرق، بعد أن كانت إثيوبيا تدين بالولاء للغرب في ظل الصراع بين قطبي العالم وقتها "الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي".

في ذات الوقت كان السودان خارجاً من تجربته الشرقية ببحر من الدماء، بعد فشل إنقلاب الرائد هاشم العطا المحسوب على الحزب الشيوعي السوداني، وولى الرئيس، وقتها، جعفر نميري وجهه بالكامل صوب واشنطن، لتحدث تحولات دراماتيكية في المشهد الجيوبولتيكي في المنطقة.

دعم السودان بقوة منظمات الثورة الإرترية إلى جانب دعمه للحركات الشعبية المسلحة الرافضة لنظام الدرق في أديس أبابا. توج هذا الدعم الذي استمر رغم تغير الأنظمة السياسية في السودان، بنجاح الجبهة الشعبية لتحريرإرتريا التي كانت في مقدمة الحركات الإرترية الثورية، في السيطرة على كافة الأراضي الأرترية وواصلت كفاحها جنباً إلى جنب مع الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية ليتم إسقاط نظام منقستو هيلي مريام في العام 1991، بعد دخول الثوار العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وبحصول إرتريا على استقلالها عبر استفتاء عام، في 1993، اكتملت ملامح المثلث "أم حجر الحمرة حمداييت".

بالعودة إلى طبيعة الحركات الشعبية المسلحة الإثيوبية التي قاومت نظام "الدرق" في أديس أبابا، نجدها كانت ذات قاعدة إثنية إقليمية في منطلقاتها، فيما كانت الحركات الإرترية تنطلق من قاعدة وطنية. ولأسماء الحركات الشعبية المسلحة دلالاتها التي تشير بوضوح إلى طبيعتها ومنطلقاتها وهي ما سيحدد مسار الاستقرار من عدمه في المثلث.

ففي إثيوبيا تشكلت الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية من مجموعة حركات إقليمية مناطقية وإثنية وهي المنظمة الديمقراطية لشعوب أورومو، حركة أمهرة الوطنية الديمقراطية، حركة شعب جنوب أثيوبيا الديمقراطية الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تي بي ال إف في المقابل تميزت الحركات الثورية الإرترية بتوجهاتها القومية والعقائدية، ولم تتخذ من القوميات قاعدة انطلاق لها، ويظهر ذلك في تركيبتها الإثنية الفسيفسائية. ورغم ذلك حدثت خلافات كبيرة وأدت إلى معارك طاحنة بين تلك الحركات في منعطفات تاريخية لكنها خلافات لا تحمل طابعاً إثنياً بقدرما كانت عوامله الأبرز إيديولوجية، وهي التي رسمت واقع إرتريا الراهن.

المشهد السوداني
تباينت دوافع السودان، على المستويين الرسمي والشعبي، في الانحياز لأطراف النزاع في إثيوبيا وللأطراف الإرترية قبل وبعد الاستقلال. كان الطابع العام لدوافع الانحياز السوداني الشعبي للثورة الإرترية يبدو في مظهره عاطفياً مرتكزاً على العلاقات الشعبية والتداخل الثقافي والاجتماعي بين قبائل شرق السودان وإرتريا، تلك الحقيقة التي لا يمكن القفز فوقها.

تقول منى عبد الفتاح في مقال لها نشره موقع "إندبيندنت عربية" بعنوان "السودان وإريتريا ورهان العلاقات بين الوحدة والتكامل"، تقول "لا يشعر الإريتريون أنهم غرباء على شرق السودان، فثقافة الطرفين وعرقيتهما وتاريخهما متشابك بشكلٍ وثيق منذ عصورٍ قديمة. ربما يكون الأمر الأهم من ذلك والذي يفسّر كون إريتريي الشرق جزءاً مكمّلاً من شرق السودان على مرِّ التاريخ، هو أنَّه بخلاف قضايا اللجوء، لم يفرّ الإريتريون عائدين إلى بلادهم، وإنَّما مكث مَن لم يتمكّن منهم من الهجرة إلى أوروبا أو إسرائيل، طوعاً في كسلا أو المدن المتاخمة، ويعيش كثيرون منهم في الخرطوم".

ولكنها ليست كل الحقيقة، إذ لعبت عوامل أخرى أكثر قوة في تصاعد زخم هذا الانحياز الشعبي السوداني للثورة الإرترية، وهي التي تزامنت مع صعود حركات التحرر الوطني التي انتظمت القارة الأفريقية ونيل العديد من الدول المستعمرة إستقلالها. في ذات الوقت ساهم تسيد الفكر القومي العربي بخلفيته الاشتراكية في جذب عدد من قادة الحراك الإرتري، فالعديد منهم كانوا يقيمون في البلدان العربية واستطاعوا التحرك في مساحات مريحة لبلورة ووضع تصورات قابلة للدعم من الأنظمة والشعوب العربية، ساعمت في التهيئة لانطلاقة الثورة الإرترية.
يكتب الباحث الإرتري سليمان فايد في ذكرى انطلاقة الثورة "إرتريا ذات تاريخ عظيم راسخ في اعماق التاريخ، زاخرة بنبض البطولات المشهودة، لقد مر نضالها الوطني منذ أرْبعينيّات القرن المنصرم، بمراحل مختلفة واشكال متعددة ، صعوداً وهبوطاً وبالرغم من كل التحديات والمؤامرات فإن العطاء كان كبير، والبذل بلا حدود من الشعب، بل صعّد هذا الشعب العظيم من وتائر نضاله إلي العنف الثوري المنظم، فكان تأسيس جبهة التحرير الإرترية في 7 يوليو 1960م في القاهرة من قبل مثقفين وطلاب إرتريين برئاسة القائد الشهيد إدريس محمد ادم – طيب الله ثراه- و التي فجرت نضالها المسلح في الفاتح من سبتمبر1961 م بقيادة الشهيد البطل حامد ادريس عواتي -رحمه الله- تحت راية جبهة التحرير الإرترية، والتي كانت تهدف إلى تحرير الأرض والإنسان، وقيام الدولة الإرترية الديمقراطية ، ذات السيادة الوطنية".

العامل الثاني الأكثر ارتباطاً بالحراك الثوري في إرتريا، هو تطور الحركة السياسية السودانية التي قادت النضال من أجل الاستقلال. ولم تكن تلك الحركة ببعيدة عن حركات التحرر الوطني في عموم إفريقيا والعالم، بل كان لها ارتباطاتها ومساهماتها مع تلك الحركات. لذلك ليس من المستغرب أن تكون داعمة للثورة الإرترية منذ انطلاقتها، وإن تفاوتت درجات ذلك الدعم حسب المنطلقات الفكرية والإيدلوجية لكل حزب سياسي. لكن في مجملها مثلت دافعاً ليكون شعب السودان، خاصة شرقه، حاضنة اجتماعية، بل وانخرط العديد من أبناء السودان في الثورة.

نقطة مهمة جديرة بالذكر هي أن الحزب الشيوعي السوداني كان هو الرائد في العلاقة مع التنظيمات الارترية حيث تعود العلاقة إلى سنة 1958 عندما قام عضوه السوداني الارتري محمد سعيد ناود بتأسيس أول تنظيم ارتري وهو تنظيم حركة تحرير ارتريا وذلك حسب ما يشير المؤسس نفسه في كتابة الصادر في منتصف التسعينات تحت عنوان: حركة تحرير ارتريا الحقيقة والتاريخ ثانيا: كانت جبهة الميثاق الإسلامي بقيادة حسن الترابي في الستينات داعما كبيرا لحق تقرير المصير لارتريا.

ربما اختلف الوضع بالنسبة لأثيوبيا لعدة أسباب، منها أن إثيوبيا أصلاً دولة مستقلة وفوق ذلك هي تحتل الأراضي الأرترية. وكذلك غاب البعد الشعبي الاجتماعي والثقافي العابر للحدود في العلاقة بيت الدولتين وربما ذلك يعود إلى عدم التداخل والامتدادات القبلية مثلما هو واقع بين السودان وإرتريا. ولعل من أبرز مظاهر التناقضات التي تبرز هنا هي علاقة الحزب الشيوعي السوداني بالثورة الإرترية حتى في ظل حكم النظام الماركسي بقيادة منقستو هيلي مريام.

اتسمت العلاقة بين السودان والحركات الثورية الإثيوبية المسلحة بالبعد الرسمي أكثر منه الشعبي، فقد وجدت تلك الحركات دعماً حكومياً في كثير من مراحلها، وكان ذلك يتوقف على طبيعة العلاقة بين الأنظمة الحاكمة في البلدين وأجندتها في كل مرحلة. ولا يغيب هنا أن إثيوبيا كانت تتعامل بالمثل في دعمها للحركات المسلحة المناوئة للسلطة المركزية في الخرطوم، مثل دعمها واستضافتها للحركة الشعبية لتحرير السودان قبل الاستفتاء على حق تقرير المصير الذي نصت عليه اتفاقية السلام السودانية في "مشاكوس"، في الوقت الذي ظلت الأنظمة الحاكمة في السودان تقف خلف الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وتدعم الحركات المتمردة على السلطة المركزية الإثيوبية في إقليم "قمز بني شنقول".

صادف انقلاب الجبهة الإسلامية القومية على الحكم الديمقراطي في السودان في يونيو 1989، ذروة معارك التحرير التي تخوضها جنباً إلى جنب وفي تناغم تام الحركات الثورية الإرترية والإثيوبية من أجل إسقاط نظام "الدرق" الحاكم في أديس أبابا، ولم تمض عدة أشهر حتى بدأت دفاعات الدرك في التداعي كما مكعبات الدومينو، وكان للدعم الاستخباري واللوجستي للجيش السوداني دوراً مهماً في دعم العمليات العسكرية على الميدان القتالي.

يقول لام أكول اوجادين في كتابه (الثورة الشعبية لتحرير السودان) "تعد المرحلة ما بين أعوام 1989-1991 مرحلة اشتداد الحركات المقاومة ضد نظام منغيستو في إثيوبيا، لذلك سعى الرئيس منغيستو للتعاون والتفاهم كوسيلة للتغلب على تلك التحركات المعارضة لنظامه، وتقليل الدعم السوداني لهذه الحركات المناهضة لحكمه، فبعث برسالتين إلى البشير، في وقت لم تكن لحكومة السودان رغبة في مد جسور التفاهم مع نظام منغيستو؛ لأن أغلب الدلائل تشير إلى احتمال سقوط نظامه أكثر من بقائه؛ لذلك قام السودان بتدريب مقاتلي الأرومو، وغامبيلا، وبني شقول، وخلق تعاوناً بين الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، والجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا مما عجل بسقوطه".

من المهم هنا الإشارة إلى أن القوات المسلحة السودانية، قبل إنقلاب الجبهة الإسلامية على الحكم في الخرطوم، كانت تمتلك واحد من أقوى أجهزة الاستخبارات العسكرية في المنطقة وفي عموم القارة الأفريقية. وكانت لهذا الجهاز علاقته الممتدة مع كثير من حركات التحرر الوطني في إفريقيا منذ الاستقلال، وكان السودان قبلة للعديد من الحركات.

من القصص غير المتداولة عن هذه العلاقات، ما فعلته الاستخبارات العسكرية عندما استولى الثوار في الكونغو على شاحنتي ذهب كانت ذاهبة لصالح المستعمر البلجيكي، واضطر الثوار إلى عبور الأراضي السودانية هرباً من مطاردة القوات البلجيكية واتصلوا بالقوات المسلحة السودانية التي حركت قوة من جوبا إلى الحدود الغربية للاستوائية وعادت بشحنة الذهب. طارت شحنة الذهب من جوبا لتحط رحالها داخل القيادة العامة بدلاً عن البنك المركزي ودون علم السلطات السياسية، وكانت جزءاً مصدراً من هذه الشحنة من نصيب الثوار في الجزائر والآخر لثوار الكنغو.

انقلاب 30 يونيو في السودان وتغيرات أضلاع المثلث
بعد سقوط نظام "الدرق"، وكما أسلفت، بدأت ملامح المثلث في الوضوح واتخذ أول أشكاله كمثلث متساوي الأضلاع على المستوى الرسمي في السنوات الأولى. كانت حينها كل النظم السياسية صاعدة إلى سدة الحكم في أوائل عهدها، وإن سبق نظام الحكم في الخرطوم الذي تقوده الحركة الإسلامية بعد انقلابها، الآخرين بنحو عامين.

لم تمض سوى سنوات قليلة حتى أسفر نظام الخرطوم عن وجهه التوسعي العابر للحدود، فكانت بدايته رعاية جماعات إرترية جهادية لزعزهة الاستقرار في الدولة الوليدة. وجاءت الطامة الكبرى الأخرى عندما حاول النظام في الخرطوم اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك. هنا اشتعل مثلثا الشرق، وتغير المشهد في مثلث "حمداييت الحمرة أم حجر" فبعد أن كان متساوي الأضلاع تحول إلى مثلث متساوي الساقين، فيما اشتعل مثلث "حلايب" والأخير لن نتطرق لتفاصيله في هذه الورقة.

تقول منى عبد الفتاح في مقالها (مصدر سابق) "كان ديدن العلاقة السودانية - الإريترية هو الاتهامات والتوتر، إذ احتضنت إريتريا العمل المسلح للمعارضة السودانية الجنوبية والشمالية، عقب اتهام الرئيس الإريتري أسياس أفورقي الخرطوم بدعم جماعات إسلامية في بلاده، عام 1994. وفي أكتوبر عام 2002، اتهم الرئيس السوداني السابق عمر البشير إريتريا بـ"الخيانة" بعد تعرّض مواقع الجيش في منطقة الحدود السودانية - الإريترية لهجوم شنَّته "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة الراحل جون قرنق بإسنادٍ إريتري بالقوات والأسلحة، لترد أسمرة على الاتهامات السودانية واصفةً إيَّاها بأنها ترقى إلى إعلان حرب".

ولتصحيح بعض ما ذكرته منى عبد الفتاح في مقالها، ولأهمية هذا التصحيح فيما سيرد لاحقاً، الهجوم شنته قوات التجمع الوطني الديمقراطي وكان أكبر فصائلها وعلى رأس قيادتها الحركة الشعبية لتحرير السودان. وكانت أسمرا تستضيف المعارضة السودانية السياسية والمسلحة، ومن المهم هنا الإشارة إلى أن المعارضة السودانية كانت تضم بين صفوفها تنظيمات مناطقية وقبلية وكانت تجد اهتماماً خاصاً من نظام أسمرا، سيكون له تأثيره مستقبلاً على المشهد العام.

في الجانب الآخر من المثلث، فتحت أثيوبيا حدودها الغربية، من الحمرة في أقصى الشمال الغربي وحتى النيل الأزرق للمعارضة السودانية المسلحة. وانتشرت على طول تلك الحدود مفارز من قوات التحالف السودانية حتى شمال النيل الأزرق، بينما ظلت قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان في المناطق التي تسيطر عليها جنوب النيل الأزرق داخل الأراضي السودانية.

خاض نظام الخرطوم، الذي تسيطر عليه الحركة الإسلامية، معاركه مع دول الجوار شرقاً وغرباً، بأدوات ووسائل مختلفة، وكان أخطرها سلاح القبلية والمناطقية. فمثلما بدأ في بناء استراتيجيته الداخلية باستنهاض الروح القبلية والمناطقية في أرجاء السودان، وغلف سياسته تلك بما أسماه "تقصير الظل الإداري" مخرجاً مفهوم الفيدرالية من مضمونه، كذلك تبنى دعم الحركات المناوئة لأنظمة الحكم الجديدة في كل من إثيوبيا وإرتريا، من منطلقات قبلية ومناطقية.

ومثلما أشار الدكتور لام أكول في كتابه "مصدر سابق" إلى تدريب نظام الخرطوم لمجموعات الأرومو، وغامبيلا، وبني شقول قبل سقوط نظام منقستو في 1991، لم يتوقف عن تطبيق ذات السياسة في استهداف تلك المجموعات. كما حشد مجموعات من قومية الأورومو الإثيوبية، المعروفة بالأكثرية المسلمة في إثيوبيا، تحت غطاء ديني وهو ذات ما حاول تطبيقه من سياسة تجاه إرتريا. ولطبيعة البنية القومية التي وسمت التنظيمات الثورية الإرترية في نضالها ضد المستعمر، رغم اختلاف منطلقاتها الفكرية، كان من الصعب على نظام الخرطوم استخدام ذات التكتيك القبلي، فاتجه إلى تبني ودعم مجموعات جهادية إسلامية من شأنها زعزعة الاستقرار في الدولة الوليدة وكذلك اللعب على التناقضات التي لازمت المنظومات الثورية الإرترية في مراحلها المختلفة.

ليس مستغرباً أن يتبنى نظام الحركة الإسلامية في الخرطوم هذه الاستراتيجية تجاه جيرانه، في إطار سياساته التوسعية، بعد أن فرض سيطرته على الحكم. فهي ذات الاستراتيجية التي بدأ تطبيقها داخلياً بعد فرض سيطرته الأمنية ومحاولات تجييش الشعب ودفعه للانخراط في حرب الجنوب التي حول عقيدتها إلى حرب جهادية.

جاءت المرحلة الثانية باستخدام سلاح القبلية لإضعاف الحركة الشعبية لتحرير السودان، ولمحاصرتها في إطارها الإقليمي بدأت في تبني ودعم مجموعات قبلية سواء كانت هذه المجموعات جزء من الحركة أو مناهضة لها من المجموعات في جنوب السودان، مستفيدة من طبيعة التركيبة القبلية للحركة الشعبية والجيش الشعبي. تبدو تلك الاستراتيجية أكثر وضوحاً في تعاملها مع الحركات المسلحة في دارفور في وقت لاحق، وهي تتبنى سياسة ضرب القبائل ببعضها على أسس إثنية وعنصرية.

ظل نظام الخرطوم مشغولا باستخدام قوته العسكرية في حروبه الداخلية، وبدلاً من خوض حروب عسكرية لا يضمن نتائجها، أطلق أجهزته الأمنية الخاصة والرسمية لخوض معركته الأخرى في إطار سياساته التوسعية خارج الحدود. وبدأت تلك الأجهزة في تنفيذ سياسة الاستقطاب المناطقي والقبلي والديني، أيهم أجدى، كأداة لزعزعة الأنظمة هناك وتتمكن بها من السيطرة على مراكز القرار إذا ما نجحت مخططاتها في إسقاط تلك الأنظمة أو على الأقل ابتزازها وإضعافها.

الحرب الإرترية الإثيوبية وخلط أوراق المثلث
اندلعت الحرب الإرترية الإثيوبية في مايو 1998 بعد مراحل من التوترات لأسباب متعددة، بعد تراجع وتدهور العلاقات بين رفقاء الأمس الذي قاتلوا من خندق واحد نظام "الدرق". لم تكن مطالبة إرتريا بترسيم حدودها الجنوبية مع إثيوبيا سبباً في إندلاع الحرب بين الدولتين لولا الخلافات التاريخية المتراكمة بين قومية تيغراي المتواجدة في الإقليم الشمالي لإثيوبيا والتيغرينيا التي تجاورها في الجنوب الإرتري، وهما في واقع الأمر امتداد لبعضهما ليس جغرافيا فحسب وإنما إثنياً. هذا إلى جانب الخلافات التي ضربت العلاقة بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا أثناء كفاحهما ضد النظام في أديس أبابا.

وربما فاقم من الوضع بين الدولتين سيطرة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على الحكم في إثيوبيا وتحكمها في الإئتلاف الحاكم، وتنفيذ سياستها القائمة على الفيدرالية الإثنية، وهو ما كانت تقف ضده أسمرا. هل كانت العلاقة بين الدولتين ستكون ذات طابع مختلف بغياب هذا العامل؟ إذ تمثل مطالب إرتريا بترسيم الحدود مع إثيوبيا في الواقع ترسيم حدودها مع إقليم تيغراي، فالنقطتين مثار النزاع "بادمي وزلامبسا" تقعان في الحدود بين الإقليم وإرتريا. وربما اتخذت المطالبة طرقاً أخرى غير الحرب إذا كانت السلطة الممسكة بدفة الحكم في أديس ابابا جهة أخرى غير جبهة تيغراي.

باندلاع الحرب الإرترية الإثيوبية يعيد مشهد مثلث "الحمرة حمداييت أم حجر" تشكيل ملامحه مرة أخرى، فبعد أن صار متساوي الساقين عقب سياسات نظام الخرطوم العدوانية تجاه الدولتين، أصبح غير متساوي الأضلاع. بدأت إرتريا في تطبيق ذات استراتيجية الخرطوم باستضافتها وتدريبها لعناصر من قوميات والأمهرا والعفر في أراضيها.

عمقت الحرب من استراتيجية نظام الخرطوم على المثلث، وبدا واضحاً تأثيرها على طول خط المواجهة بينها والمعارضة المسلحة في الحدود بين الثلاث دول. بدأت تلك الاستراتيجية تأتي أكلها خاصة بعد توقف الحرب وبدء إرهاصات الانخراط في مفاوضات السلام بين حكومة الخرطوم والمعارضة السودانية. نجحت حكومة الخرطوم في جر المشهد الإقليمي إلى مربعها، بنجاح مخططها في تقسيم مفاوضات السلام مع المعارضة السودانية إلى جزر معزولة.

نجحت في حصار الحركة الشعبية لتحرير السودان في منطقة نشأتها، وخرجت بصيغة مفاوضات مشاكوس التي تمنح شعب الجنوب حق الاستفتاء على تقرير المصير، وعزلت بقية المناطق التي تسيطر عليها الحركة في جبال النوبة والنيل الأزرق عن مصير الجنوب، فتركته الاتفاقية معلقاً بما سمي "المشورة الشعبية".

نجحت في عزل المعارضة السياسية عن تأثيراتها على الأطراف، وحاصرت وجودها داخل المركز في البرلمان المركزي باتفاق القاهرة. نجحت في عزل الحركات المناطقية المسلحة في الشرق، فتركت لإرتريا بعض من دور تلعبه في الشأن السودان محصوراً فقط في شرق السودان وانطلاقاً من استراتيجيتها المناطقية والقبلية. لتصمم ما عرف باتفاق أسمرا لشرق السودان أو "اتفاق سلام شرق السودان"، وتضم أطرافه مؤتمر البجا والأسود الحرة "قبيلة الرشايدة" وحزب شرق السودان الذي ظهر إلى السطح مع توقيع الاتفاق ومكون على أساس قبليؤ وهي تنظيمات ذات قاعدة قبلية.

نجحت في عزل الحركات المسلحة في دارفور، وصنعت لها منبراً ظل متنقلاً بين العاصمة التشادية انجمينا والعاصمة القطرية الدوحة. وهي حركات ذات طابع مناطقي أكثر منه قومي.

هذه الاستراتيجية السياسية عمقت من الخلافات بين المكونات السودانية، وعادت بها إلى قواعدها المناطقية، وفي كل منطقة خلقت خلافات بين مكوناتها الإثنية والقبلية في موازاة مع سياسة تقليص الظل الإداري التي طبقتها من أجل إحكام سيطرتها السياسية وقبضتها الأمنية. بل وامتد تأثيرها على المشهد السوداني بعد سقوط نظام الحركة الإسلامية في أبريل 2019، إذ القت بظلالها على اتفاقية جوبا للسلام التي وقعتها السلطة الانتقالية مع الجبهة الثورية. وبدلاً من أن توقع الجبهة الثورية، التي تضم حركات الكفاح المسلحن اتفاقاً موحداً يصعب تجاوزه، آثرت الوقوع في فخ استراتيجية النظام الذي كافحت وضحت بالدم من أجل إسقاطه بالتوقيع عليه مجزأً فيما أسمته "مسارات"، لتصنع بنفسها شرك تطبيقه أو التسويف في تطبيقه دون انتباه لطبيعة المرحلة الانتقالية وتعقيداتها. فكان مسار دارفور ومسار جبال النوبة والنيل الأزرق ومسار الوسط ومسار الشمال ومسار الشرق، تلك المسارات التي كانت تنمو داخلها بذور الفتنة.

الحرب الإثيوبية الإثيوبية
يكتب عبد الوهاب بن حليف في دراسته البناء الاجتماعي والثقافي في أفريقيا تجاذبات القبيلة والدولة، المنشور في المجلة الجزائرية للسياسات العامة، العدد 3 فبراير 2014م:
"تمتاز دول القرن الإفريقي بتنوع اثني وعرقي واسع، وغالباً ما يكون هذا التركيب حاضراً عند أي محاولة لتفسير أسباب اندلاع النزاعات والحروب، تتعدد وتتباين التعريفات حول مفهوم العرق والأثنية، فالجماعة الأثنية يمكن تعريفها على أنها: جماعة بشرية تتميز بسماتها الطبيعية من لغة، دين، عرق، قومية، قبيلة عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى داخل الدولة الواحدة."

سبقت الحرب الإثيوبية الإثيوبية عدة أحداث مهمة تأثر بها المثلث، كان أبرزها توقيع اتفاقية سلام الجزائر بين إرتريا وإثيوبيا التي أسكتت صوت المدافع في الهضبة إلى حين. لم يحدث تطور ملحوظ في العلاقات بين الدولتين إلا بعد توقيع اتفاق السلام التاريخي "الحدث المهم الثاني"، بعد رحيل زعيم جبهة تيغراي ورئيس الوزراء الإثيوبي مليس زيناوي، الذي وقع على اتفاقية الجزائر، قبلها بنحو ستة اعوام. تلاقت أشواق أسياس أفورقي وأبي احمد في اتجاه نسف أسس الفيدرالية الإثنية التي كانت ركيزة السلطة في إثيوبيا.

منطلقات ودوافع النظام في إرتريا، الذي كرس قبضته على الدولة وفقاً لنظام الحزب الواحد والرئيس الواحد، قائمة على الخوف من تأثيرات النظام الإثيوبي القائم على الديمقراطية التعددية، وفوق ذلك التعددية الإثنية إلى جانب العمل على القضاء على الغريم الرئيسي وهو الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي.

واحدة من استراتيجيات النظام الحاكم في أسمرا هي قمع ومحاصرة إي صعود لاتجاهات قومية في الداخل تهدد أركان القبضة البوليسية التي يتكيء عليها النظام. وهو توجه يمثل ازدواجية في المعايير التي ظلت تسم علاقات دول المثلث بين بعضها، إذ ظل يدعم الحركات المناطقية والإثنية المناهضة للأنظمة الحاكمة في ضلعي المثلث باستمرار بينما يخشى من تنامي النزعة القومية داخل بلاده لإدراكه بأنها ستعصف بأركان نظامه.

كما سبق تلك الحرب انتصار إرادة الشعب السوداني بسقوط النظام الحاكم في الخرطوم في 2019، وتداعيات الثورة المضادة التي استخدمت كل الأسلحة الممكنة بما فيها إثارة الفتن والحروب القبلية لقطع الطريق أمام أي تقدم للقوى المدنية في محاولة ترسيخ قواعد للحكم المدني الديمقراطي في السودان.

أبرزت الحرب الإثيوبية الإثيوبية التي اندلعت في خواتيم 2020، وتداعياتها فيما بعد توقيع اتفاق بريتوريا، المستنقع الذي أصبحت تخوض فيه دول المثلث. فقد أثار ما أطلق عليه رئيس الورزاء الإثيوبي، ابي أحمد، مشروع "الاندماج الوطني" حفيظة حلفائه في السلطة التي تأسست بعد نجاح الثورة على قاعدة الفيدرالية الإثنية. وربما كان طريقة إدارته لمعركته مع حلفاء الأمس تشي بصعود ديكتاتور جديد بعد تشكيله لحزبه الجديد "الازدهار" على أنقاض التحالف الذي حقق نجاح الثورة الإثيوبية في اقتلاع النظام الماركسي الديكتاتوري. وبدأ فعلاً في تقليم أظافر حلفاء الأمس وإقصائهم من مراكز صنع القرار متكئاً على إنجازات يعتقد أنها كافية لتحقق له الجماهيرية المطلوبة لتجاوز الفيدرالية الإثنية.

رغم تبني أبي أحمد إلى استراتيجية "المستقبل"، إلا إنه عاد إلى ذات القاعدة في مواجهته العسكرية مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي لجأت إلى إقليمها، مثلما لجأت الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى الجنوب، عندما ضيق عليها سبل التعايش على وقع التطورات الجديدة المطلوبة. أمام صلابة القوة العسكرية لتيغراي، لجأ أبي أحمد لتجييش القوميات الأخرى وعلى رأسها الأمهرا والأرومو، مستفيداً من التناقضات بين القوميات، وهي ذات السياسات المتبعة في السودان. كما لجأ إلى صديق المرحلة إسياس أفورقي، الذي انتهز السانحة بامتياز من أجل القضاء على التيغراي جبهةً وشعباً، فدخل الحرب إلى جانب حليفه بكل قوة واجتاح شمال إقليم تيغراي والمناطق الشمالية الغربية من إثيوبيا التي كانت تسيطر عليها جبهة تيغراي بوضع اليد بعد سقوط نظام منقستو هيلي مريام.

سرعان ما ارتد السهم إلى أبي أحمد عقب توقيع اتفاقية بريتوريا في 2022، سهم القوميات والإثنيات، بعد أن استشعرت تلك القوميات تجاهل مطالبها وعدم تضمينها نصوص الاتفاقية. وعاد المشهد الإثيوبي إلى سيرته الأولى، فبعد أن كانت مليشيات الفانو الأمهرية تسير بمحازاة الجيش الفيدرالي جنباً غلى جنب في حربه ضد التيغراي، ها هي الآن ترفع فوهات بندقيتها في وجه الجيش الفيدرالي، بل واستطاعت أن تؤكد على قدراتها وبسط سيطرتها على جزء كبير من الإقليم واقترابها من العاصمة أديس أبابا. هذا غير التململ في إقليم أروميا في الجنوب والعفر في الشرق.

يكتب قيتوم قبرلويل في مقال بعنوان - لماذا قد تتجه إثيوبيا وإريتريا إلى حرب أخرى: "بعد أربع سنوات من الحرب في أوروميا وبني شنغول وتيغراي، أصبح من الواضح أن جهود أبي للقضاء على القومية الإثيوبية قد فشلت وجعلت الاقتصاد الإثيوبي والجهاز الأمني على وشك الانهيار. كقائد، واجه أبي أحمد معضلة: إما العثور على طريقة حية مع القوى العرقية القومية أو الإشراف على انهيار إثيوبيا. اختار التنازل عن أهدافه الأيديولوجية من أجل البقاء السياسي. أولاً، عقد سلامًا تكتيكيًا مع جماعات المعارضة الرئيسية في الأورومو وأطلق سراح قادة مثل جوهر محمد وبيكيلي جيربا في يناير 2022. في وقت لاحق من ذلك العام، ذهب أبي لتوقيع اتفاقية السلام مع جبهة تحرير تيغراي الشعبية".

لم يجد التيغراي سوى السودان ملجأ لهم، فتاريخ العلاقات بين الاستخبارات العسكرية في السودان ومقاتلي الحركة الشعبية لتحرير تيغراي قديم، منذ نشأتها. وفي ظل الصراع بين السلطة السودانية التي يتحكم فيها العسكر والحكومة الإثيوبية، كان من الطبيعي أن يميل السودان إلى جانب التيغراي.

كما لعبت التقاطعات الإقليمية دوراً مهماً، مثلما ظلت تفعل دوماً دون أن نتطرق لها هنا، إذ صادفت الحرب الإثيوبية الإثيوبية هوىً لدى النظام المصري الساعي إلى تسيُّد المشهد الإفريقي ولا تزاحمه سوى أثيوبيا، كما أن الصراع على المياه كان له تأثيره على المشهد مع عصر سد النهضة. مصر التي ظلت تدعم إرتريا باستمرار، تقف على النقيض منها الآن في هذه الحرب. ما يهمها هنا هو إضاعف القوة الإثيوبية العسكرية والسياسية، لذلك كان دعمها لجبهة التيغراي كبيراً.

حرب السودان.. رأس المثلث
لم تكن حرب السودان، التي اندلعت في 15 إبريل 2023، تحتاج لأسباب لإشعال فتيلها، فقد جرت تهيئة الملعب منذ وقت مبكر. وما فعلته ثلاثة عقود من حكم الحركة الإسلامية، التي عبثت بإعدادات التوجهات القومية الكلية، وإعادتها لضبط مصنع البلاد إلى عهود القبلية والمناطقية من أجل تثبيت أركان حكمها واستمراريته هو ما أنتج الواقع الراهن اليوم بكل تجلياته.

نفذت الحركة الإسلامية على مؤسسات الدولة إنقلابها بواسطة جناحها العسكري داخل القوات المسلحة في 30 يونيو 1989. واستغلت المؤسسة العسكرية، مثلما استغلت بقية مؤسسات الدولة، في تنفيذ استراتيجيتها وسياساتها الرامية إلى تمكين مشروعها الأحادي من السيطرة الكاملة على تلك المؤسسات. وخلال الثلاثة عقود تمكنت من تنفيذ ما أطلقت عليه "سياسة التمكين"، التي أفرغت كل المؤسسات من قوميتها لتصبح خادمة للحزب الحاكم، وعلى رأس هذه المؤسسات القوات المسلحة السودانية.

لتنفيذ سياساتها في ترسيخ المناطقية والقبلية والإثنية استخدمت الحركة الإسلامية المؤسسة العسكرية مثلما استخدمت المؤسسات الأخرى. ولكن كان الدور والتأثير الأكبر وجهته للمؤسسة العسكرية وعملت على إضعافها ونزع ثوب القومية عنها وتشويه تقاليدها وعقيدتها، حتى لا تقف حجر عثرة امام مشروعها السياسي. وشرعت في تشكيل قوى عسكرية موازية لخوض حربها ضد شعبها.

بدأت بتكوين قوة "الدفاع الشعبي" كقوة موازية للجيش وسلحت القبائل لقتال بعضها، وكان نتيجة ذلك تكوين قوات الدعم السريع كأكبر قوة قبلية مسلحة لمواجهة الحركات المسلحة في دارفور ومن ثم لعب أدوار صعدت بها إلى أن صارت هي قوة المشاة الضاربة في الوقت الذي تراجع الاهتمام ولسنوات بتأهيل القوات المسلحة موحدة من مؤسسات الدولة القومية.

كل هذه الحمولة ورثتها السلطة الانتقالية التي أفرزتها ثورة ديسمبر بعد نجاحها في اقتلاع نظام الحركة الإسلامية في إبريل 2019. واجهت الفترة الانتقالية عقبتين رئيسيتين، اولاهما المجلس العسكري الذي كان يمثل اللجنة الأمنية للنظام المخلوع، والذي اتضح لاحقاً إنه يدعم ويقف خلف الثورة المضادة التي تسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وثانيهما ضعف الحكومة المدنية وعدم وضح الرؤية لديها وغياب البرنامج السياسي والاقتصادي المتفق عليه، وهذا يعود إلى طبيعة القوى السياسية التي شكلت الحكومة، وإلى طبيعة تكوينها وتناقضاتها.

هذا الواقع أدى إلى ضعف قدرات السلطة التنفيذية في أداء مهامها المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية التي حكمت الفترة الانتقالية. ومكَّنت الثورة المضادة من الاستمرار في سياساتها عبر وكلائها في أجهزة الدولة المختلفة بما فيها المنظومة العسكرية بأضلاعها المتعددة، لضرب كل التحركات الجماهيرية التي تضغط من اجل استكمال مهام الثورة. ولجأت إلى سياسة استخدام الصراعات القبلية وإثارة الفتن والحروب شرقاً وغرباً، وكان لقوات الدعم السريع دوراً فاعلاً في كل هذه المرحلة التي تستهدف القضاء على الثورة. كانت طبيعة تكوين وعقيدة الدعم السريع مصممة للعب هذا الدور منذ 2013، وهي تدافع عن النظام الحاكم وواصلت في ذات الدور في الفترة الانتقالية، ولعبت دوراً مهماً في انقلاب قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة على الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2021، تنفيذا ودعماً.

بدأت حرب السودان عملياً بعد فشل الإنقلاب في الوصول إلى غاياته بعد المواجهة الشعبية الصلبة التي عرقلت مخططاته. وبدأ رفقاء الأمس من إسلاميين وعسكر وقوات دعم سريع الشروع في مفاصلة خشنة انتهت بإراقة الدماء فيما بينهم وقتل الأبرياء وتشريد الملايين من السودانيين وتجويعهم واستخدامهم كدروع بشرية في حرب لعبت فيها القبلية والمناطقية الدور التعبوي الرئيسي.

لهذه الحرب تداعياتها على بقية دول المثلث، مثلما على دول الجوار الأخرى، وهو ما يحدد طبيعة رد الفعل المتوقعة من كل دولة. ولعل أخطر ردود الفعل هي ما كشف عنه الأمين السياسي للمجلس الأعلى للبجا، سيد أبو آمنة، لسودان تربيون، "إن هناك أربع جماعات مسلحة في إريتريا، لها صلة بقيادات من حزب المؤتمر الوطني السابق، تعمل على إشعال توتر في شرق السودان. وأن هذه الجماعات تشمل قوات الأورطة الشرقية بقيادة الأمين داؤود، وحركة تحرير شرق السودان بقيادة إبراهيم دنيا، وقوات الحركة الوطنية للعدالة والتنمية بقيادة محمد طاهر سليمان بيتاي، ومؤتمر البجا بقيادة موسى محمد أحمد".

زوايا السلام
إن مثلث شرق السودان، الذي يضم السودان وإثيوبيا وإريتريا، هي رمز للعلاقات المعقدة والمتعددة الأوجه في المنطقة. تشكل هذا المثلث من خلال الروابط التاريخية والمصالح الجيوسياسية والتحالفات الاستراتيجية، مما يؤدي إلى شبكة معقدة من التفاعلات التي تؤثر على استقرار وأمن القرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر.
يتطلب فهم ديناميكيات هذه المثلثات تحليلاً شاملاً للسياق التاريخي، ودوافع الأطراف المعنية، وتأثير التأثيرات الخارجية. ولا يمكن وضع استراتيجيات فعالة لتعزيز السلام والاستقرار والتعاون في المنطقة إلا من خلال هذا التحليل.

ولتعزيز السلام والاستقرار والتعاون في المنطقة، من الضروري النظر في عدة مجالات رئيسية:

1. تعزيز التعاون الإقليمي:
يعد تعزيز التعاون بين السودان وإثيوبيا وإريتريا من خلال المنظمات الدولية والإقليمية. ويمكن لهذه المنظمات أن تتوسط في الصراعات، وأن تعزز الحوار، وأن تنفذ مشاريع إنمائية تفيد جميع الأطراف المعنية. ويمكن أن يساعد تعزيز التعاون الإقليمي على التصدي للتحديات المشتركة مثل المنازعات الحدودية وإدارة الموارد والتنمية الاقتصادية.

2. تشجيع التكامل الاقتصادي:
ويمكن للترابط الاقتصادي أن يكون أداة قوية للسلام. يمكن للمبادرات التي تهدف إلى تعزيز التجارة وتطوير البنية التحتية والاستثمار بين السودان وإثيوبيا وإريتريا أن تخلق فوائد متبادلة تثبط الصراع. يمكن لمشاريع مثل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية (AfCFTA) أن توفر إطاراً لتكامل اقتصادي أعمق، والحد من الفقر وخلق فرص عمل تحقق الاستقرار في المنطقة.

3. معالجة الأسباب الجذرية للصراع:
العديد من النزاعات في المنطقة متجذرة في التوترات العرقية والاستبعاد السياسي والتفاوتات الاقتصادية. وتتطلب معالجة هذه المسائل حوكمة شاملة واحترام حقوق الإنسان والتوزيع العادل للموارد. ويمكن للمبادرات التي تعزز التماسك الاجتماعي، مثل الحوارات المجتمعية وحلقات العمل المتعلقة بحل النزاعات، أن تساعد في بناء الثقة والحد من التوترات.

4. الاستفادة من الدعم الدولي:
يمكن للجهات الفاعلة الدولية، بما فيها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرادى البلدان، أن تؤدي دورا داعما في تعزيز السلام والتنمية في المنطقة. ويمكن أن يساعد تقديم المعونة المالية والمساعدة التقنية والدعم الدبلوماسي في بناء قدرات المؤسسات المحلية على إدارة الصراعات وتنفيذ المشاريع الإنمائية.

5. تعزيز الحكم الرشيد والديمقراطية:
الحكم الرشيد والمؤسسات الديمقراطية ضروريان للاستقرار الطويل الأجل. ومن شأن تشجيع الحكم الشفاف والخاضع للمساءلة، والانتخابات النزيهة، وسيادة القانون أن يساعد على منع ظهور أنظمة استبدادية والحد من احتمالات نشوب الصراعات. كما أن دعم منظمات المجتمع المدني ووسائط الإعلام المستقلة يمكن أن يعزز مشاركة الجمهور والإشراف عليه.

6. تعزيز الروابط بين الشعوب والمجتمعات المحلية:
إن بناء روابط ثقافية واجتماعية قوية بين شعوب السودان وإثيوبيا وإريتريا يمكن أن يعزز التفاهم المتبادل ويقلل من التحيز. يمكن أن تساعد برامج التبادل والمهرجانات الثقافية المشتركة والشراكات التعليمية في سد الفجوات وخلق إحساس بالهوية المشتركة والغرض.

8. تعزيز التعاون الأمني:
تعد الجهود الأمنية التعاونية أمراً حيوياً لمكافحة التهديدات عبر الحدود مثل الإرهاب والاتجار بالبشر والتهريب. ويمكن أن يؤدي إنشاء آليات أمنية مشتركة وتبادل المعلومات الاستخبارية إلى تحسين فعالية أجهزة إنفاذ القانون وتعزيز الاستقرار الإقليمي.

الاستنتاج
يمثل مثلث "الحمرة حمداييت أم حجر" صورة مصغرة للتحديات والفرص الأوسع في القرن الأفريقي. ومن خلال التركيز على التعاون الإقليمي، والتكامل الاقتصادي، ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع، وحشد الدعم الدولي، وتعزيز الحكم الرشيد، وتعزيز الروابط بين الشعوب، وتعزيز التعاون الأمني، يمكن لبلدان المنطقة أن تعمل معا لبناء مستقبل أكثر سلاما واستقرارا وازدهارا.

وتتطلب هذه الجهود التزاما وتعاونا مستدامين من جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك الحكومات والمنظمات الإقليمية والمجتمع المدني والمنظمات الدولية.

*امير بابكر عبد الله
كاتب، وصحفي
مدير مركز مواطنون لصحافة ثقافة السلام

معرض الصور

وثائق