02/10/2024

تحليل دور التمويل الخارجي للاعلام السوداني في زمن الحرب

د. سامي عبد الحليم سعيد*

مقدمة:
بعد إندلاع الحرب في السودان في ابريل 2023، و مثل غيرها من مؤسسات القطاعين العام و الخاص، تعطلت مؤسسات الصحافة والاعلام مباشرة بإنطلاقة الحرب في عاصمة البلاد في الخرطوم، وبعد ذلك بقليل تعرضت كل المؤسسات الصحفية والاعلامية للتدمير و السرقة والاحتلال. وتعرض العاملون في مجال الصحافة والاعلام إلى الهجوم والاستهداف المنظم، لا سيما الاسماء المعروفة بمناصرتها للديمقراطية ومناهضتها للدكتاتورية العسكرية، وبذلك هاجرت الغالبية العظمى من الصحفيين إلى خارج البلاد دون سابق ترتيب. وفي ضوء ذلك انطلقت موجة كبيرة لمحاولة استقطاب الصحفيين من قبل وسائل إعلام جديدة ممولة من أطراف النزاع أو الداعمين الدوليين لهم. ومع ذلك لم تحصل الأطراف التي خاضت الحرب حتى ذلك الوقت على صحفيين من ذوي الخبرة المهنية والتأثير العاليين، وإن حصلت على بعضهم فهي لم تنل ما تريده منهم تماماً. لذلك اشتدت حدّة الاستقطاب بالترغيب والترهيب وفرض رقابة صارمة على مواقف الصحفيين، والمثقفين عموماً في البلاد خاصة المؤثرين منهم، ولم يسلم من ذلك أولئك الذين أعلنوا موقفهم الرافض للحرب وعدم مشاركتهم فيها.

في ظل تلك الظروف، فإن المؤسسات الإعلامية المستقلة في السودان تواجه تحديات منهجية كبيرة تقوض بشدة وتقيّد قدرات قطاع الإعلام على توفير محتوى إعلامي موثوق به يدافع عن المصلحة العامة للشعب. لذلك كان التمويل الأجنبي - ونقصد الدعم الذي قدمته المنظمات الدولية - هو السبيل الوحيد لبعض المؤسسات الإعلامية من أجل الاستمرار في تقديم المحتوى الصحفي في ظل استقطاب وتمويل أطراف النزاع للمؤسسات الإعلامية المحلية لإنتاج محتوى موجه على حساب قضايا المجتمع المحلي.

محددات هذا النقاش:
هذه النقاط تحاول أن تعالج موضوعات الاعلام الوطني السوداني. ولأغراض هذا النقاش، لا نقصد بمصطلح الاعلام الوطني السوداني، المؤسسات الاعلامية الرسمية ولا الحزبية ولا إعلام التحالفات السياسية. و إنما نجتهد أن يكون النقاش بخصوص المؤسسات الاعلامية المستقلة. وكذلك لا تهتم هذه المداخلة بالاعلام الذي يقوده الافراد ضمن صيغ السوشيال ميديا او ما شابهة ذلك.

و بخصوص مصطلح التمويل – والمنح المالية. نقصد هنا التمويل الذي توفره المؤسسات التي تسعى لتعزيز مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان والحكم الرشيد – والتنمية المستدامة، ولا نقصد بها عمليات التمويل المقرونة بالارباح وسعر الفائدة مثل تلك التي تقدمها المؤسسات المالية الوطنية أو الدولية. فالمصطلح المقصود هنا (المنح المالية المقرونة بتنفيذ برامج) وليس ( التمويلات المالية المقرونة بالفوائد السنوية).
يتجنب هذا الاستعراض بقدر الامكان ذكر أمثلة او نماذج لاسماء المؤسسات الاعلامية – وكذلك يتجنب ذكر اسماء مؤسسات التمويل.

أولا: تحليل السياق: وضعية الاعلام بعد إندلاع الحرب:
يتأسس السياق العام للصحافة والاعلام في السودان بعد نشوء الحرب في ابريل 2023 على عدد من الحقائق، وبشكل مختصر تنحصر فيما يلي:

- انهيار المؤسسات الاعلامية القومية أو المنشأة بواسطة القطاع الخاص.
- ضعف الأداء الإعلامي المستجيب لمتطلبات ظروف الحرب.
- حدة الاستقطاب السياسي وتأثيره الكبير على وحدة الرسالة الاعلامية الداعية للسلام والتصالح والتعايش المشترك والتكافل المجتمعي.
- ندرة التمويل الوطني والدولي لقطاع الصحافة والاعلام.

ثانياً: تمويل الإعلام في زمن الحرب:
من المهم أن ندرك أن التمويل أو الدعم، سواء كان مصدره محليا أو خارجيا، يأخذ معاني عديدة، ولكن بشكل مختصر، نحصر في هذه المناسبة التمويل والدعم في ثلاث جوانب.

(أ‌) التمويل المالي: يتلخص في دعم العمل الصحفي والاعلام المتصل بقضايا وموضوعات معينة، وفي هذا يكون الدعم (للموضوعات) أو (الرسالة الصحفية). ويشمل كذلك التمويل المالي للمشتغلين بالصحافة والاعلام، والذين بسبب عملهم في تلك الموضوعات أو لسبب إنهم يشتغلون في الصحافة يتم تعريضهم لظروف يحتاجون فيها للدعم المالي، الأمثلة لهذه الجوانب عديدة.

(ب‌) التمويل و الدعم التقني – أو الفني: و هو نوع من الدعم متصل بدعم بيئة الانتاج الصحفي، توفره بعض المؤسسات الدولية المهتمة بالصحافة. وهذا النوع من التمويل يستهدف التدريب والتأهيل وقد يشمل هذا الجانب توفير أدوات الأنتاج الصحفي. الدعم الفني بمفهومه الواسع يشمل تقديم الخدمات المتخصصة في بعض الموضوعات المتصلة بالعمل الإعلامي، مثل توفير التطبيقات الالكترونية والاشتراك فيها، ويشمل كذلك توفير العون القانوني للصحفيين والمساعدة في صياغة القوانين الوطنية وانتداب الخبراء لتقديم الدعم للنقابات الصحفية، والتحقيقات عن مقتل واعتقال وتعذيب واختفاء الصحفيين، وكذلك إنتاج البحوث والدراسات وأوراق السياسات. غالباً ما تقوم بمثل هذا الدعم والتمويل المؤسسات والاتحادات الصحفية المتخصصة مثل المعهد الدولي للصحافة.

(ت‌) الدعم السياسي والاعلامي (المناصرة): و بهذا نقصد أن المؤسسات والمشتغلين بالصحافة، في زمن الحرب قد يتعرضوا للاعتقال أو الفصل من العمل في المؤسسات الاعلامية التي يعملون فيها، وبشكل ملحوظ الذين يعملون في مؤسسات إعلامية مملوكة للدولة. في تلك الظروف توفر المؤسسات الدولية المهتمة بالعمل الصحفي الدعم السياسي والاعلامي، من خلال تنظيم الحملات السياسية والإعلامية، لصالح المؤسسات والصحفيين المتضررين من السياسات التي تتخذها الدول والمجموعات العسكرية ضد الصحافة.

فيما يلي نجتهد ان نركز الحديث في التمويل المالي، مع قليل من التركيز على الدعم الفني والسياسي. وبخصوص التمويل المالي سنخصص النقاش بمزيد من التفصيل على نوعين من التمويل. تمويل وطني أو محلي (وهذا يشمل التمويل الذاتي) – وتمويل دولي، مع تركيز ملحوظ على التمويل الدولي أو الخارجي.

التمويل المحلي: إن السياق السياسي له تأثيرات واضحة على تمويل الصحافة والاعلام. فعلى الصعيد الوطني انهارت مؤسسات التمويل المحلي وانهار القطاع الخاص الذي يستثمر في مجال الصحافة والاعلام. وفرضت أوضاع الحرب فضاءاً ضيقا جداً للحرية الاعلامية وبالتالي تقلصت فرص التمويل المحلي إلى أقل مستوى. وفي سياق الحرب والتنافس السياسي، يتأثر التمويل المحلي بإشكاليات الاستقطاب السياسي الحاد، وبالتالي غالباً ما يكون التمويل المتاح بفرص كبيرة هو التمويل الذي توفره المؤسسات الداعمة للحرب، أو المؤسسات الحربية نفسها. و التحديات التي ظلت تواجه الصحافة المحلية في ظل ظروف الحرب جعلت الاقلام الحرة المؤثرة تغادر فضاءاتها الوطنية إلى بيئة تنسجم سياسياً مع الرسالة الإعلامية التي تعمل عليها المؤسسة الصحفية المعنية، أو يعمل عليها الصحفي المعني. ومع الوضع في الاعتبار لظروف التمويل المحلي في زمن الحرب، واتساع نطاق هجرة المؤسسات الصحفية الوطنية الى الخارج ينفتح المجال إلى التمويل الخارجي لتقديم العون للصحافة المهاجرة – أو صحافة المنفى.

التمويل الخارجي: نحاول هنا أن نحلل ظروف التمويل الخارجي بوصفه النافذة الثانية للتمويل، مع تجنب الغوص عميقاً في تصنيفات وأشكال التمويل الخارجي.

من المهم أن ندرك أن (جزءً) من المؤسسات الدولية تتأثر بالحرب، وبالتالي تتأثر التمويلات الممنوحة من تلك المؤسسات بإشكاليات الاستقطاب السياسي التي ذكرناها عند الحديث عن إشكاليات التمويل المحلي في زمن الحرب. من السهل على المؤسسات الاعلامية المهنية المستقلة، التي تبحث عن تمويلات طويلة المدى، أن تجتهد في تطبيق نوع من التحليل، وبالتالي تحدد المؤسسات التي يمكنها أن تكون مصدراً للتمويل المقبول، وتحلل ظروف التمويل وإجراءاته، و بالتالي تقرر بخصوص مدى استجابته لشروط المؤسسة الاعلامية المحلية.

فرص التمويل الخارجي / الدولي:
بادئ ذي بدء، من المهم الإشارة أن التمويل أو الدعم الدولي يمر بتحديات كبيرة في ظل الانقسام المحلي والدولي بين طرفي الحرب، فالحرب تنتج كل يوم اصطفافات سياسية تؤثر بشكل مباشر في الإعلام، وكذلك تؤثر في الدعم والتمويل الذي تحصل عليه الصحافة والصحفيين. فبجانب الإقرار بأن هناك من يستغل الإعلام لصالح الحرب أو توظيف الأموال الممنوحة للإعلام من أجل صياغة أجندة سياسية ذات صلة بالحرب، ولكن كذلك، لا يمكن افتراض نظرية المؤامرة للاستنتاج أن كلّ من يموّل مؤسسة صحيفة يبتغي من ذلك تنفيذ أجنداته، خاصة مع وجود منظمات دولية ذات مصداقية لم يثبت أنها حاولت التحكم في الخطوط التحريرية، اللهم إلا تشجيع المستفيدين على التطرق لقضايا ومهمات من صميم العمل الإعلامي.

و هنا نحاول بيان طبيعة التمويلات التي تقدمها المؤسسات ذات المصداقية:
- تعمل بعض الإتجاهات العالمية – متعددة الاطراف –من أجل تعزيز قيم عالمية مثل قيم السلام العالمي والتعايش السلمي ومناصرة الشعوب النامية – تعزيز المساواة وعدم التمييز – المحافظة على البيئة – الديمقراطية وحقوق الانسان وسيادة حكم القانون – الخ. من أجل تلك المبادئ و القيم تم انشاء مؤسسات دولية للإشراف على تكريس تلك القيم ووفرت صناديق وأموال ولجان رصد ومتابعة. وأموال تلك المؤسسات تخضع لقواعد وقوانين صارمة.

- ضمن تلك الاتجاهات العالمية، تعمل بعض الدول ضمن خطة وطنية، لتعزيز ذات المبادئ بقصد تعزيز الصداقة مع الشعوب، أو للتأثير في السياسات الوطنية من خلال تمويلات تقدمها للحكومات الوطنية أو للمؤسسات المدنية المستقلة. في الحالتين أعلاه تكون التمويلات مرتبطة بمعايير الأداء والتنفيذ الجيد والأثر الواضح على المستفيدين.

عموماً، بسبب الحوجة الكبيرة لتقديم دعم للصحافة في العالم بعد أن تراجعت صناعة الصحافة بسبب التطورات التكنولوجية المتصلة بالصحافة والإعلام، بجانب ظروف أخرى، قامت اليونسكو في عام 2018 بإعداد تقرير لحصر حجم الدعم الدولي المقدم لحماية وحرية الصحافة في العالم بواسطة عدد محدود من الوكالات الدولية المانحة، والتي شملت الوكالة السويدية للتنمية الدولية، والشئون العالمية في كندا والوكالة الامريكية للتنمية الدولية ومكتب الشئون الخارجية والكومنولث والتنمية في المملكة المتحدة، ووكالات مختلفة في الاتحاد الاوربي، ووصلت التقديرات إلى ما يقدر بنحو 450 مليون دولار في جميع إنحاء العالم لدعم حرية الصحافة. وزعم مركز المساعدات الاعلامية الدولية، مقره في الولايات المتحدة، إن هذه الجهات المانحة بحاجة لمضاعفة المبالغ التي أنفقوها لتصل إلى مليار دولار أمريكي سنويا، ومع ذلك، على الرغم من زيادة هذا الدعم الحكومي إلا أنه لا يزال أقل بكثير من المبالغ المطلوبة. وليست هناك أرقام مرصودة على نحو دقيق بحجم التمويلات المالية المقدمة لحرية الصحافة في السودان، من مجمل الأموال المرصودة دولياً لحرية الصحافة.

مبادئ وقيم عامة متصلة بتمويل الإعلام في زمن الحرب:
هناك "قيم ومبادئ"، نجد مفرداتها منتشرة في عدد من الوثائق المتصلة بالانضباط المهني، ولهذه المبادئ والقيم تأثير في تمويل الاعلام في زمن الحرب. وكذلك هناك "أهداف" عالمية تتشاركها المؤسسات المهتمة بالصحافة. ولتحقيق تلك الأهداف تسعى بعض المؤسسات إلى تقديم الدعم اللآزم لجعل تلك الأهداف قابلة للتحقيق. نحاول من خلال إعادة التذكير بتلك القيم والمبادئ والأهداف، أن نؤكد بأن (توفير) المنح المالية أو (السعي إليها) لدعم الإعلام المحلي والعالمي، هي عملية محكومة بضوابط وقواعد عالمية:

(1) بعض القيم و المبادئ التي تحكم التمويلات:
- عدم اتصال مصدر تلك الأموال بجرائم دولية أو بانتهاكات القانون الدولي لحقوق الانسان. قد تتعرض المؤسسات الاعلامية إلى عقوبات دولية إذا تبين أن تلك التمويلات تدخل ضمن غسيل الأموال أو إذا كانت المؤسسة الإعلامية تعمل بموجب تلك التمويلات ضمن الحملة الإعلامية الحربية أو تسببت بصورة من الصور في انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان.

- أن لا تكون المؤسسة المانحة، من المؤسسات التي صدرت بحقها عقوبات دولية من مؤسسة دولية معترف بها.

بخصوص المبادئ المتصلة بالسياق السوداني: فإن الإعلام المحلي يكون مرتبط بالقيم التي ينادي بها أو الأهداف التي يسعى إليها. إن الإعلام المرتبط بعمليات بناء السلام المستدام، و احترام كرامة وحقوق الإنسان، تحكمه قيم مثل عدم اتصال التمويل بالحرب ولا بأطرافها ولا بمناصريها أو مموليها. وذلك لأن الحرب هي انتهاك صريح للسلام و تهديد مباشر لكرامة وحقوق الانسان.

بخصوص المعايير المطلوبة بواسطة المؤسسات المانحة: تطلب المؤسسات الممولة مستوى من التنفيذ المرتبط بالمراجعة المالية ومراجعة تأثير تلك الانشطة وقدرتها في تغيير المفاهيم والسياسات و الواقع .. الخ.

(2) بعض الاهداف العالمية المتصلة بدعم الاعلام:

من بين أهم الأهداف التي تستدعي دعم الصحافة:
- حرية الصحافة واستقلاليتها من الأهداف العالمية. والاتجاه لدعم حرية الصحافة وإستقلاليتها يكتسب سنده من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي يؤسس لحرية التعبير والحصول على المعلومات والفكر والإعتقاد (المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية). في الغالب تقوم المنظمات المهنية والمنظمات الدولية الحقوقية التي تهتم بشأن حرية التعبير والصحافة بتقديم الدعم لحماية تلك الأهداف.
- السلام العالمي وحقوق الانسان: إن المادة 20 من الاعلان العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تحظر بشكل صريح الترويج للحرب والكراهية وتحظر أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية وأي افعال أخرى تعد تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف وانتهاكات حقوق الانسان.

(3) ضمن متطلبات قبول طلب المنحة المالية:
تطلب المؤسسات المانحة من المؤسسات الصحفية التي تقدم طلبا للتمويل، أن يتقدموا بخطة متكاملة مقرونة بجدول أنشطة محددة بقيودات زمنية وأن يحددوا آلية لرصد النتائج وآثار التنفيذ من خلال تقارير دورية.
في أغلب الاحوال، لا سيما في حالة التمويلات الكبيرة وطويلة المدة، يكون الحصول على المنحة المالية عبرالمنافسة العامة والتي يعلن عنها عبر إعلان عام.

في خطط ومشاريع المنح والتمويلات تكون أهداف التمويل محددة بشكل عام وبشكل تفصيلي في شكل أنشطة معينة – وكذلك على المؤسسة الصحفية مقدمة المشروع أن ترصد بعض النتائج المتوقعة وتحددها. تتم مناقشة تلك التوقعات مع المؤسسة طالبة التمويل بحيث تكون أهداف يتفق الطرفان على تحقيق شروط تحققها من خلال المشروع المقترح.

الشفافية: وهي من المتطلبات المهمة من أجل الحفاظ على النزاهة والمصداقية. من المهم أن تستعرض المؤسسة التي تتلقى التمويل في كل مرة، ومتى ما أقامت منشطا تنفيذا للأعمال المرتبطة بتلك المنحة المالية، أن تذكر بكل شفافية مصدر التمويل و مقداره وأغراض المشروع. عدم الشفافية يترك للمتلقي (الباب موارباً للتخمينات والاستنتاجات). لذا ظلت المؤسسات الممولة الشفافة تطلب من المستفيدين من التمويل أن يذكروا مصدر التمويل ـ وأن يظهر ذلك في الموقع الالكتروني – وأن يكون العلامة المميزة ( اللوقو) الخاص بالمؤسسة المانحة ظاهرا في كل الأنشطة – إلا إذا دعت ظروف معينة لعدم اظهار اللوقو ـ ولكن في الغالب هذا امر غير مرغوب – ولكن قد تستدعي التقديرات السياسية والأمنية عدم إظهار اللوقو وهنا تكون التقديرات متصلة بسلامة المؤسسة الإعلامية والعاملين فيها.

ثالثا: التمويلات الخارجية و تأثيرها على واقع الإعلام في زمن الحرب:

(1) رصد بعض التأثيرات على واقع الاعلام:
لقد أسهمت المنح الدولية لمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الإعلام، بشكل كبير في ملء الفجوة التمويلية التي سببتها الحرب وإنهيار المؤسسات الوطنية والقطاع الخاص العامل في مجال الصحافة والإعلام. وبعد مرحلة الصدمة والهجرات والنزوح الغير منظم، بدأت المؤسسات المشتغلة في الإعلام تستعيد وجودها في الفضاء العام تدريجيا، وبدأت مراكز وتجمعات صحفية تتكون حول المؤسسات التي تحظى بتمويل من المانحين الدوليين. وبالتالي يمكن القول، بدون التركيز على جودة العمل الصحفي ونطاق تأثيره، إن التمويل الدولي ساهم بقدر كبير في استمرار عمل العديد من المؤسسات الصحفية، وأسهم في نشوء بعض المنصات الإعلامية الجديدة.

بسبب تأخر إنشاء موقف دولي متكامل بخصوص إنهاء الحرب و بناء السلام في السودان، لم تتكون كذلك رؤية متكاملة لدى المانحين الدوليين بخصوص دور الإعلام ضمن إستراتيجية بناء السلام في السودان. وهذا التأخير أسهم كذلك في تعطيل التدفقات المالية الكافية لتعزيز دور الإعلام.

من أجل إنتاج هذه الورقة، ومن خلال مقابلات قصيرة مع بعض المشتغلين في الإعلام، تكونت بعض الرؤى الخاصة بتأثير برامج التمويل في تأسيس صحافة قوية وقادرة على مواجهة تحديات واقع الحرب من خلال مؤسسات يقودها صحفيون محترفون. ومن بين الافادات التي تقدم بها الصحفيون، إنّ المنح الدولية لبرامج المؤسسات الإعلامية في الفترة بعد إندلاع الحرب في السودان ركزت على مخاطبة المشاكل السياسية والاجتماعية والأمنية التي ظهرت باندلاع الحرب. وصاحب ذلك برامج تدريب قصيرة المدة معزولة من أي خطط استراتيجية ورؤى بعيدة المدى، ونادراً ما كان يتم تقديم الدعم بهدف إنتاج محتوى احترافي.

ومن الإشكاليات أيضاً التي أظهرها الدعم الأجنبي، هو أن المؤسسات الإعلامية التي حصلت على فرص تمويلية، صممت برامجها وفق ما يتحصلون عليه من معلومات بخصوص خطط المنظمات في المرحلة المعينة، وفي ذلك تماشت في تصميم استراتيجيتها وبرامجها مع توجهات المانحين، وليس وفق ما يحتاجه الإعلام السوداني في الواقع من تطوير. إن الحوجة الآنية للتمويل، جعل المؤسسات الصحفية لا تخطط لبرامج قادرة على إحداث التغيير وبناء الوعي ومناقشة قضايا المجتمعات المحلية ودفع الجمهور للتأثير على السياسات العامة وحماية المصلحة العامة للناس.

بالتالي، وبعد مرور ما يقارب العام ونصف العام من الحرب في السودان، لم تظهر حتى الآن رؤية متكاملة بخصوص دور الإعلام في فترة الحرب، وكيفية تطوير قدرات المؤسسات الصحفية من أجل القيام بالدور المأمول. ومن ضمن ذلك تأسيس تفاهمات بخصوص حجم التمويل الكلي المطلوب، والمدى الزمني لإحداث تغييرات مفاهيمية وإحداث إختراقات سياسية. في سياق مناقشة تجربة مشابهة، أشار تقرير نشره معهد الجزيرة للإعلام في يوليو 2022 حول حالة الإعلام في اليمن أثناء الحرب إلى أن فرص التمويل الدولي لم تتدفق وفقًا لمعايير واضحة تضمن المنافسة العادلة. وعلاوة على ذلك، لم يتم دعم المؤسسات الإعلامية الناشئة حديثًا بطريقة تضمن استقلاليتها واستقرارها. وتم تقديم التمويل بناءً على معايير غير موضوعية، ودون خطة واضحة، ولم يكن الوصول إلى التمويل عادلاً ولا شفافًا.

استهدفت مبادرة الشركات الصحفية الناشئة Journalism Start-up بالتحليل دراسة العلاقة بين المانحين الدولين والمؤسسات الصحفية، وفي ذلك قام بتحليل العشرات من الشركات والمؤسسات الصحفية المستقلة في الدول النامية التي تتلقى التمويل من مانحين دولين، فوصل في بحثه إلى نتيجة مفادها أن المانحين يرغبون في تقديم المساعدات والمنح لفترات قصيرة حتى تتمكن تلك المؤسسات من أن يكون لها مخطط للاستدامة المالية، ولكن بعض تلك المؤسسات الاعلامية لا تبتكر طرقا للاستدامة والاستمرارية. الدعم المقدم لتلك المؤسسات الصحفية يقتصر على مرحلة النشوء فقط، أو مساعدة المؤسسات الموجودة أصلاً في تجاوز المرحلة الانتقالية الطارئة، كما في حالة الحرب الحالية في السودان. ولكن البحث يدعو إلى الابتكار في التعامل مع الظروف والتخطيط بصورة علمية وعملية من أجل الحفاظ على المؤسسات الصحفية مستقرة ومؤثرة بالاعتماد على وسائلها في توفير الموارد التشغيلية، بدون الاعتماد على المنح المالية.

الخاتمة:
نخلص بالقول بأن للتمويل الخارجي للصحافة، في ظروف الحرب في السودان، وفي سياق التدمير الشامل الذي شهدته المؤسسات الإعلامية المحلية، كان له دور حيوي في مساعدة الإعلام لاستعادة دوره، وأسهم في ظهور وتطوير جمعيات ومنظمات وشركات إعلامية، وساعدها في الثبات والاستقرار في المرحلة المؤقتة. غير أنه لا يمكن أبدا القول بأن وسيلة إعلامية ما، ستخلق استقراراً يقوم على هذا التمويل الخارجي وحده. صحيح أنه في ظل الظروف الاقتصادية السيئة التي تخيّم على سوق الصحافة في السودان، وفي ظل تخوّف الصحفيين الفارين من جحيم الحرب أن يتحولوا إلى أدوات دعاية لأطراف الحرب أو المؤسسات الدكتاتورية أو لوكالات معينة، تظهر المنح المالية الدولية كطوق نجاة، لكنه طوق مرحلي تتحكم فيه عوامل كثيرة، منها أساسا أن المانح قد لا يستمر في سياساته التمويلية أو الظروف التمويلية تختلف أو قد يتقلص حجم التمويلات فلا يغطي كل المؤسسات الصحفية التي كان يغطيها في السابق.

أثبتت التجارب أن الإعلامي الوطني، بعد الحرب مباشرة، يدخل في حالة جمود بسبب تدمير البنية التحتية للأعلام في البلد. وفي هذه الحالة تكمن أهمية التمويل الخارجي. ولكن الأهمية الاستراتيجية تكمن في المقدرة على توظيف التمويلات والمنح التي توفرها المنظمات الدولية في تحقيق استقرار في عمليات الانتاج الصحفي دون الاعتماد على التمويلات الخارجية على المدى البعيد. مثل تلك الرؤية تحتاج إلى تفكير طويل المدى وتخطيط يرسم مسار الصحافة الوطنية في زمن الحرب وما بعدها ويقوم بتنفيذ أهداف وطنية من تصميم شركاء العملية الصحفية في السودان.

*المدير القطري لمؤسسة آيديا في السودان

معرض الصور