قراءة في كتاب سلام السودان: مستنقع المليشيات والجيوش النظامية
الصادق إسماعيل
أرسل لي الصديق أمير بابكر كتابه "سلام السودان: مستنقع المليشيات والجيوش النظامية". الكتاب توثيق دقيق وجهد مقدر في تشريح ظاهرة تعدد الجيوش والمليشيات والقوات غير النظامية في السودان. وقبل أن أقرأ الكتاب وجب الإشارة إلى أن معرفتي بالمؤلف نفسه، ويا للمصادفة، كانت من خلال التحاق كلينا بقوات غير نظامية، أو إن شئت أن تسميها مليشيا، وهي قوات التحالف السودانية بقيادة العميد عبد العزيز خالد. إذاً، أمير بابكر يكتب منطلقاً من تجربة حقيقية تجعله ملمّاً بموضوع كتابه. ورغم أن تجربة المؤلف في العمل المسلح تشي بإيمانه بالعمل المسلح وبشرعية تكوين مليشيا أو جيش نظامي، إلا أنّه توخى الموضوعية في كتابته، فلا تكاد تجد فيه ذكراً لتلك التجربة أو استخدامها كمعيار لتناول موضوعه عن القوات غير النظامية. والمرة الوحيدة التي تكلم فيها عن أمر شخصي كان عندما تحدث عن الحرب الأخيرة بين الجيش والدعم السريع؛ فقد استند إلى مشاهدات شخصية لدعم معلومة أن الحرب كان من المفترض أن تبدأ قبل أسبوع من التاريخ الذي بدأت فيه.
وعودة إلى الكتاب، فقد تمكن مؤلفه أمير بابكر من تناول موضوع الجيوش غير النظامية باحترافية عالية، مما يوفر للقارئ معلومات مهمة واستعراضاً تاريخيّاً يتيح له تكوين فكرة عامة تجعله قادراً على إبداء وجهة نظره بمعلومات موثقة. أورد أمير بابكر تعريفات صارمة لأنواع الجيوش والمليشيات غير النظامية والحركات المسلحة والتمرد. ولتعضيد تعريفاته، استعرض تجارب على المستوى العالمي مثل الحرس الثوري الإيراني ومليشيا "فاغنر" الروسية ووضعية الجيوش في سويسرا. كما تناول تحول الجيوش الثورية التي تكوّنت كمليشيات أو قوات ثورية إلى أن تصبح الجيوش الرسمية بعد التحرير أو إسقاط الديكتاتوريات. وكانت هذه المقدمة ضرورية للمؤلف ليدلف منها إلى موضوعه الأساسي، وهو مستنقع المليشيات والجيوش غير النظامية الذي غرق فيه السودان وتاه إلى أن أصبح وجود المليشيات والقوات غير النظامية وضعاً طبيعيّاً لا يثير دهشة أحد، ولكنه يؤثر على البلاد وأمنها واستقرارها.
تتبّع المؤلف أمير بابكر التمردات التي حدثت منذ الاستقلال وتكوينها لجيوش ومليشيات غير نظامية تطالب بحقوق سياسية، وكيف تطورت تلك الجيوش وطريقة عملها وهي تحارب ضد القوات النظامية للدولة، وكيف تعاملت الحكومات بعد الاستقلال معها حتى وصول نميري إلى الحكم، حيث شهدت فترته توقيع اتفاق سلام، مما أدى إلى الفترة الوحيدة التي نعمت بالسلام حتى عام ١٩٨٣، حيث اندلع التمرد مرة أخرى وسقط نظام مايو. استمر التمرد وظهرت مليشيات غير نظامية تقاتل مع الحكومة اسمها "القوات الصديقة". واستمر الأمر حتى وصول الإسلاميين للحكم في عام ١٩٨٩، وهو الوقت الذي تكاثرت فيه القوات والمليشيات غير النظامية. لذلك كان منطقيّاً أن تأخذ فترة الإنقاذ الجزء الأكبر من الكتاب، حيث أنشأت الإنقاذ قوات الدفاع الشعبي كقوات غير نظامية، بينما أنشأ معارضوها قوات ومليشيات لمحاربتها، مثل قوات التجمع الوطني. ثم انفجر الموقف في دارفور وتعاملت الإنقاذ معه على أساس إثني، مما أدى إلى قيام الجنجويد كمليشيات مدعومة من الحكومة، في الوقت الذي كانت الحكومة تحارب فيه الحركة الشعبية بالاستعانة بقوات الدفاع الشعبي، والتي تأسست على مباديء الجهاد الإسلامية.
تطرق المؤلف أيضاً إلى مبادرات السلام في عهد الإنقاذ، التي أبرمت مع بعض المليشيات والقوات غير النظامية، وهو أمر أعطى شرعية لتلك الحركات أو أغرى حركات تمرد أخرى بالدخول في اتفاقيات مماثلة. وفي تناوله لتعامل الإنقاذ مع دارفور، لاحظ المؤلف أن استخدام العامل القبلي والإثني أدى إلى تكوين مليشيات جديدة، بالإضافة إلى تلك التي تشكلت على أساس ديني لمحاربة الجنوب تحت رايات الجهاد، وهي ما أطلق عليه نظام الإنقاذ "قوات الدفاع الشعبي". هذه الملاحظة مهمة لتفسير ما آلت إليه الحال من الحرب الحالية التي يمكن إرجاع جذورها إلى تعامل الإنقاذ مع ما حدث في دارفور.
وعلى الرغم من الانفصال وقيام دولة جنوب السودان، وبالتالي تحول الجيش الشعبي لتحرير السودان إلى جيش نظامي للدولة الجديدة، فإن المؤلف لاحظ أن عدم حل مشكلة جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة قاد إلى تحالف جيوش تلك المناطق مع حركات دارفور. هذه الجيوش كانت جزءاً من جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان، فبالرغم من نهاية الحرب في الجنوب، نشأ "جنوب جديد" متحالف مع حركات دارفور، مما ولّد مزيداً من الجيوش غير النظامية.
يُحسب للمؤلف أيضاً الرصد الدقيق لمبادرات السلام التي تمت أيام الإنقاذ، ووضعها حسب التسلسل الزمني. وعلى الرغم من أنها كانت مبادرات سلام، لاحظ المؤلف أنّ القيمة الأساسية لهذه المبادرات كانت تدجين تلك الحركات وإضعافها، مما أدى إلى نتيجة عكسية، إذ اضطرت تلك الحركات المسلحة إلى أن تكون أكثر مناطقية وقبلية، خاصة بعد اكتشافها أنّ اتفاقيات السلام لم تقدم حلولاً حقيقية بل كانت مجرد استراتيجية لتعزيز السيطرة السياسية والأمنية.
أفرد المؤلف حيزاً كبيراً لاستعراض ثورة ديسمبر وتأثيرها على الواقع السياسي، حيث جاء عنوان هذا الفصل معبرًا عن موضوع الكتاب بوضوح: "ثورة ديسمبر وطوفان المليشيات". فقد كان للمليشيات الدور الأكبر في مآل الوضع بعد الثورة، وكان لمليشيا الدعم السريع دور كبير في اللجنة الأمنية للنظام، وهي اللجنة نفسها التي أعلنت انحيازها للثوار واستلمت السلطة. أما بقية الحركات المسلحة التي كانت منضوية تحت لواء الجبهة الثورية، فقد ارتكبت أكبر خطأ في تاريخها عندما وافقت على الدخول في اتفاق سلام مع الحكومة الانتقالية على أساس توزيع مناطقي أعاد إلى الأذهان استراتيجية الإنقاذ نفسها. وقد انعكس هذا سلباً لاحقاً فيما أسماه المؤلف "الانقلاب على الثورة نفسها"، حيث شاركت تلك الفصائل المسلحة في التمهيد للانقلاب الذي قاده الفريق البرهان وحميدتي في أكتوبر ٢٠٢١، والذي انتهى باندلاع الحرب بعد الخلاف حول "الاتفاق الإطاري" الذي حاول أن يقدم حلولاً لتعدد الجيوش باقتراح دمجها في جيش وطني محترف.
إذاً، نشبت الحرب، وعادت قوات الدعم السريع لتكون مليشيا مرة أخرى، مع وجود ٩٢ حركة مسلحة قائمة، اضطرت بعضها إلى الدخول في القتال الذي امتد ليشمل معظم السودان كنتيجة حتمية لفشل الساسة في إيجاد صيغة مرضية لإدارة البلاد وتوزيع مواردها بشكل عادل.
استعرض المؤلف كذلك تجارب الدمج والتسريح التي تمت في السودان منذ الاستقلال، مع توضيح أسباب نجاح بعضها وفشل الأخرى، وهو فصل مهم للغاية، تمنيت لو توسع فيه وقارن تجارب دول أخرى. فأنا أتفق مع المؤلف في أن عملية الدمج والتسريح لهذا الكم الهائل من المليشيات والجيوش غير النظامية سيكون هو التحدي الأكبر حال وضعت حربنا الحالية أوزارها، فالسلاح الآن منتشر بصورة لم يسبق لها مثيل من قبل في السودان.
جاء الفصل قبل الأخير في موقعه المناسب، حيث استعرض "البعد الخارجي للمليشيات والجيوش غير النظامية"، موثقاً ورصداً دقيقاً للدعم الخارجي وعلاقاتها الإقليمية التي ساهمت في صمود هذه الجيوش والمليشيات. فقد تناول المؤلف معظم تلك الحركات والدول التي انطلقت منها ودعمتها، مما يُعد مادة خصبة للباحثين حول الحركات المسلحة والمليشيات في السودان فيما يخص التأثيرات الخارجية على السياسة السودانية.
اختتم المؤلف كتابه بالدعوة إلى مشروع وطني يقوم على العدالة، مع ضرورة مراجعة كل مؤسساتنا الوطنية وإصلاحها. وهو المشروع الذي عمل المؤلف معظم حياته على الدعوة إليه، مُصِّراً على أنّه المخرج الوحيد، وأنا أوافقه تماماً. وأعتقد أن التوافق على هذا المشروع يجب أن يقوم على دستور فدرالي يعيد السلطة والثروة للشعب ليقرر فيها وفق توافق عام لا يُقصي أحداً ولا يحتكر السلطة والامتيازات لأحد.
الكتاب مكتوب بطريقة سلسة، بعيداً عن الحشو والإطالة والاستطرادات التي تخل بالمعنى أو تثير الملل في نفس القارئ، وهو أمر نجح فيه المؤلف أمير بابكر أيّما نجاح. أيضًا، ذَخُرَ الكتاب بملاحق مهمة جداً شملت قانون الدفاع الشعبي، والترتيبات الأمنية لاتفاقية "نيفاشا"، واتفاقية شرق السودان. وكان الملحق الأول عبارة عن استبيان أجراه "مركز مواطنون لصحافة ثقافة السلام" حول حل المليشيات والقوات غير النظامية، وتمنيت لو أفرد له المؤلف فصلًا لسرد نتائجه واستعمالها كمقياس لشعور المواطنين تجاه وجود هذه المليشيات في السودان.
ختاماً، حاولت أن أستعرض الكتاب بصورة عامة، وأرجو أن تشد كتابتي هذه انتباه القراء لهذا الكتاب المهم الذي يوفر معلومات ضرورية للساسة والصحفيين والباحثين، وقد أثبت المؤلف جميع المراجع التي اعتمد عليها في نهاية الكتاب، وهو أمر نفتقده في الكثير من الكتابات التي تنطلق من وجهات نظر مسبقة وتحاول تطويع المصادر لخدمة هذه النتيجة، والمؤلف أمير بابكر يحيلنا الى كل مصادره التي استقى منها المعلومات، وهذا يرسّخ مفهوم الكتابة التي تحترم القاريء وتتيح له فرصة النظر النقدي فيما يقرأه دون محاولة تأثير على عقله.