08/12/2024

الولايات المتحدة الأمريكية في ``متاهة`` ملف سلام السودان 1/2

خالد ماسا
طوال العقود المنصرمة لم يغب "ملف السودان" عن طاولة اهتمام الإدارات الأمريكية، ديمقراطية كانت أو جمهورية. وظلت تحتكر الإمساك بجهاز "التحكم عن بعد"، لعرض ما ترغب أن تشاهده ويشاهده العالم على شاشة العرض السياسي في الدولة ذات التأثير الكبير في القرن الأفريقي والحجر المهم في جدار إستراتيجية الدولة العظمي في أفريقيا، وبوابتها لتحصين نفوذها في القارة التي تشهد نزالاً من الوزن الثقيل مع منافسين كبار لم ولن يتركوا بلداً بهذا التأثير في أفريقيا دون مزاحمة الولايات المتحدة الامريكية في طاولة طعام مصالحها .

ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تُلاعِب ملف السودان بورقة عصا عقوبات الحظر الإقتصادي والإدراج في قوائم الإرهاب والمطلوبين جنائياً وجزرة الرشاوى السياسية بتبادل المنافع السياسية مع "نظام البشير"، حتى توجت صفقتها الكبرى باتفاقية "نيفاشا" التي لم تمنح البلد المأزوم سلاماً شاملاً بقدر ما أنها منحت كل من طرفي الصفقة مبتغاه. الحركة الشعبية وما كانت تقاتل لأجله باسم شعب الجنوب تحت راية التحرير و"نظام البشير" ببقاء سلطة مركزية قابضة في الخرطوم تعمل بدوام وأجر كامل في وظيفة "ضابط معلومات" و"خفير" في دوام مسائي بأجر إضافي يحرس المصالح الأمريكية في الإقليم .

ثورة ديسمبر، غير أنها اقتلعت النظام الذي خبِر بطول المدة كيف تؤكل كتف السياسات الأمريكية في السودان، هزت القناعات بقدرة العقل الأمريكي في فك تعقيدات الكيمياء السياسية في السودان. فبدت الدولة العظمى في مظهر المرتبك، فلا هي دعمت الشارع الذي ثار حتى يُكمل ثورته وينجز التغيير الجذري المنشود ولا دعمت حكومة الإنتقال في معركتها ضد النظام. وتركت بقرة التحول المدني الديموقراطي "عوان بين ذلك" فلا هي فارض أبقت نظام البشير ولا هي بكر تحقق ما تنشده ثورة التغيير.

إستمرت الولايات المتحدة الأمريكية في الإحتفاظ بذات الجين الذي وُلدت به سياساتها تجاه السودان على الرُغم من الفُرصة الذهبية التي اتاحتها قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر وإنقلاب الشريك العسكري على الإنتقال المدني، لتعيد تشخيصها لداء السياسة السودانية وتكتب وصفتها بما يعالج السرطان ولا يكتفى بخفض الحُمى .

لم يكن ملف السودان بعيداً عن عقل مصممي الحملة الإنتخابية لترشيح الجمهوري / دونالد ترامب في ولايته الاولى فسابقوا الزمن في سنة الولاية الآخيرة. فلعبوا لعبة الورق مرة أخرى ولكن هذه المرة كان "جوكر" العقوبات والرفع من القائمة السوداء لداعمي الإرهاب ودفع تعويضات ضحايا المدمرة "يو أس أس كول" وتفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام والتقدم خطوات في عملية "التطبيع" مع إسرائيل هو الحاسم في إتخاذ الإدارة الجمهورية في البيت الابيض لقرارات تكسبهم المزيد من النقاط في ماراثون الانتخابات الأمريكية. وكانت كذلك حسابات الجمهوريين الأمريكان في الأمتار الآخيرة لولاية دونالد ترامب تطابق ما قام به الديموقراطيون وقع الحافر على الحافر على يد الرئيس / باراك أوباما. وكانت تخاطِب وجدان الناخب الأمريكي بأحد أهم القضايا تأثيراً على الرأي العام الا وهي قضية ضحايا أحداث 11 سبتمبر. فكان إعتراض عضوي مجلس الشيوخ / روبرت مينيديز من نيوجيرسي و/ تشاك شومر من نيويورك على مشروع إعادة الحصانة السيادية والذي يحصن السودان من فتح باب دعاوي من قبل أسر ضحايا 11 سبتمبر الشيء الذي جعل إقتصاد حكومة ما بعد الثورة مخنوقاً باحجام رؤوس الأموال من الإستثمار في السودان .

خسرت أمريكا "ترامب" والجمهوريين بسبب سوء تقديراتها لتركيبة حكومة الإنتقال في السودان وتأثيرات الرأي العام على قراراتها فباءت زيارة ووير خارجيتها / مايك بومبيو للخرطوم والتي كان من ضمن أهدافها الشروع في خطوات عملية للتطبيع مع إسرائيل رد عليها رئيس وزراء الانتقال / عبد الله حمدوك بان ذلك ليس من ضمن إختصاصات حكومة الانتقال .

لم يكُن من الصعب إكتشاف التناقضات في سلوك الإدارة الامريكية حيال الملف السوداني فبعد أن عاد المشهد السياسي في السودان لما كان عليه قبل الثورة وبالظروف التي دفعت الولايات المتحدة الامريكية في 1996 لاغلاق سفارتها في السودان وإعادة فتحها في 2002 بتمثيل دبلوماسي منخفض (قائم بالاعمال) قامت بارسال رسالة ذات حمولة سلبية بتعيين السيد / جون غودفري سفيراً لها في الخرطوم بعد مضي أقل من شهر على قرارات الخامس والعشرون من أكتوبر تلك القرارات التي وصفتها أمريكا نفسها بالانقلاب والتراجع عن خطوات التحول المدني الديموقراطي التي إدعت أنها تدعمها في السودان .

تبعثرت أوراق الملف السوداني أمام "غودفري" سفير الدولة التي غابت دبلوماسيتها بهذا المستوى الدبلوماسي عن السودان ربع قرن من الزمان وغاصت آلية قدميها في رمال "العملية السياسية" المتحركة ولم يزد وزن سهمها عن حالة التطبيع "الاجتماعي" لطاقم السفارة مع مناسبات المجتمع السوداني .

لم تُحرِز السياسة الأمريكية العلامة الكاملة في إمتحان تعاملها مع ملف السودان وقدم "الديموقراطيون" برئاسة / جو بايدن بعد دخولهم البيت الأبيض خمر "الجمهوريون" القديمة في قناني جديدة.

معرض الصور