من صور النزوح: شتاء محمد علي القاسي
محمد غلامابي
في معسكر لإيواء النازحين بمسيد الفكي حسين بحي الثورة بمدينة القضارف يحكي محمد علي نازح من غرب الجزيرة عن رحلة معاناته مع النزوح رفقة أسرته، بداية من مفارقة وطنه الأصلي بإحدى قرى محلية المناقل، مرورا باهوال الطريق، وليس نهاية بمعسكر الإيواء بالقضارف، فالنهاية السعيدة بالنسبة له هي العودة الى دياره بالجزيرة، وإستئناف حياته التي خبرها.
يحكي محمد علي، وهو معاشي، عن كيف هاجم أفراد من الدعم السريع القرية، في رمضان الفائت، حيث كانوا على وشك تناول الإفطار. كانت رائحة الطعام والمشروبات البلدية تنبعث من تلك البيوت المطمئنة، تعبر الأنوف، وتدغدغ الحواس والمشاعر، بعد يوم شديد الحر على الصائمين. حينها إنطلق صوت الرصاصة الأولى، التي تؤرّخ لبداية زهق روح الحياة الوادعة، الآمنة، والمطمئنة بالقرية. يقول محمد علي رأيت الذعر، والخوف مثل ساقين يمشي، بل يهرول، بهما الرجال، والنساء، والأطفال إلى المجهول، وقد حملت بعض النسوة شيئا من التمر والمياه، والنشأ "خليط دقيق الذرة المطبوخ"، للإفطار في الفلوات والمزارع القريبة من القرية، والتي اتخذها السكان كملاذات مؤقتة لحين رحيل الجنجويد. عند عودتنا مساء إلى القرية كانت البيوت، والمحال التجارية الصغيرة "دكاكين" قد تم نهبها، فقررت، والحديث لمحمد علي،الخروج من القرية رفقة الأسرة، دون وجهة محددة، فكنا دون سابق ترتيب او ميعاد خلقاً من الناس تتكدّس متاعنا التي خرجنا بها تزحم السوق الشعبي لمدينة المناقل، لاتخذ قراري بالنزوح إلى مدينة القضارف.
في الطريق إلى القضارف كانت هناك صور باهرة كما حكى محمد علي، إلى جانب صور المعاناة، ففي قرية " كضيبات" جنوبي المناقل تداعى أهل القرية نحو الباصات السفرية، وشاحنات نقل البضائع لإفطار الجميع. فرشوا القلوب قبل الأرض، حملوا ما تجود به الأنفس من طعام وشراب برضى وفرح شديدين. بتنا ليلتنا تلك في كنفهم، حتى إستأنفت الرحلات طريقها صباح اليوم التالي، غير أن التفاتيش والارتكازات العديدة للجيش السوداني على طول الطريق إلى القضارف زادت من معاناة المسافرين، فمن بينهم كان هناك كبار السن، والعجزة، والأطفال، والنساء، والمرضى، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة، الذين تضاعفت معاناتهم طوال الطريق.
في القضارف كان على محمد علي وأسرته، ان تنتظر ليومين بالسوق الشعبي بالمدينة في العراء، فلا سقف يمنع الحر، أو فرش يمنح الجسد بعض الراحه، ولا طعام أو شراب لأطفال ونساء ومرضى ارهقهم طول المسير، حتى أتخذ محمد علي قرارا ثانيا بالتوجه إلى معسكر للإيواء بحي الثورة بالقضارف عند مسيد "الفكي حسين". يقول محمد علي (وجدت المسيد يضجّ بالنازحين الناجين من الموت. يتكوم البشر ومتاعهم في أماكن ضيقة، خصصت إدارة المعسكر لاحقا إحدى "الكرانك"، وهو بيت من الحطب والقش، للنساء والأطفال، بينما اتخذ الرجال خياما قاموا على صناعتها من فارغ جوالات السكر، والخيش، ثم كانت حفلات الذباب نهارا، والبعوض ليلا، تحتفي بهم مع دخول فصل الخريف الماضي. ورغم جهود المنظمات، والمبادرات الشعبية لمواطني القضارف تجاه النازحين لكن الحاجة للطعام، والشراب، والعلاج تبقى أكبر من طاقتهم. وشدّد محمد علي في حديثه معي على ضرورة إنصاف أبنائهم من المغتربين، خاصة بدول الخليج العربي الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل أهلهم وذويهم النازحين سواءً بمدينة القضارف، أو غيرها من مدن النزوح المختلفة بالسودان، أو بمعسكرات اللجؤ بدول الجوار.
الآن يقضي محمد علي شهره التاسع نازحا بالقضارف، ويقول ضاحكا "لو أنني تزوجت مرة أخرى على زوجتي الراحلة لوضعت حملها"، لكنّهم لم يضعوا احمالهم، وآلامهم بعد، فالعودة إلى الديار والأهل لا تزال حلما عصيّا، والحمّيات الغامضة مثل الضنك، وغيرها تحوم حولهم، فيما تحرّك قطار التعليم دون أن يصطحب أطفالهم معه، وتضربهم اليوم انسام ديسمبر الباردة، بلا مأوى، أو غذاء، أو غطاء.. تعوي بهم الريح كما وصفها الشاعر محي الدين فارس في نصه البديع "ليل ولا جئة":
الريحُ أطفأتِ السراج .. وقهقت خلف الخيام
وفراخك الزّغب الصغار .. تراعشت مثل الحمام
وتكوّمت فوق الحصير .. تكوّمت مثل الحطام
ناموا على جوع فما عرفوا هنا طعم إبتسام
وعلى خدودهمو بقايا أدمعٍ وروىً قتام