أوان المسغبة
عبدالله رزق أبو سيمازة
"مافي كهربا". وقبلها "مافي غاز". كلمات بسيطة لكنها تكشف عن أزمة أعمق، أزمة الوقود، التي تزداد وطأتها مع غلاء الفحم والحطب، ومعها تتخلق المجاعة بصمت ثقيل، تهدد بحسب تقارير الأمم المتحدة نحو 25 مليون سوداني.
نسيتُ أن أضيف: "مافي قروش". لا عمل ولا مصدر دخل، والأساسيات أصبحت ترفاً بعيد المنال، فأسعار السلع الضرورية - التي تتضاءل في الأسواق - ترتفع بلا هوادة، وتتجاوز إمكانيات المواطن البسيط. اضطر كثيرون إلى بيع ما يملكونه من أجهزة منزلية مستعملة بأسعار زهيدة، في محاولة بائسة لتوفير الحد الأدنى من أساسيات العيش: دقيق، رغيف، سكر، عدس، بصل، زيت... القائمة تطول، والمعاناة أعمق من أن تختصر.
"مافي بنزين". مصدر رزق آخر ينسد أمام العديد من الأسر. الركشات توقفت عن العمل بشكل شبه كامل مع شح البنزين وارتفاع أسعاره الجنونية (ما بين 30 ألف جنيه إلى 40 ألف للجالون). بات مشهداً مألوفاً أن ترى أسرة تدفع ركشة محملة بصهريج مياه لملء خزانها من أقرب بيارة، والمياه غالباً مالحة أو مرّة، لكنها مجانية، فالآبار العذبة أبعد من أن تطالها الأيدي أو الإمكانيات.
لكن رحمة السماء لم تغب تماماً. أمطار غزيرة هطلت مؤخراً على الوادي الأخضر، خففت قليلاً من أزمة المياه الحادة، ووفرت لبعض الأسر ما يسد احتياجاتها الأساسية، حتى لو بشكل مؤقت.
الأسر التي لا تملك دعماً مالياً من الخارج تعيش أسوأ أيامها. أصحاب الدكاكين يرفضون إعطاء الدين، فمن الواضح أن المدينين لن يتمكنوا من السداد قريباً. حتى الصحفي عبد الوهاب موسى، الذي لجأ لبيع الخضار في مدينة الصحفيين بداية الحرب، توقف عن عمله بسبب ضعف القوة الشرائية للمواطنين.
في ظل هذه الظروف القاسية، تلجأ الأسر لحلول تبدو أقرب إلى المعجزات. كثير منها بدأ يبيع أثاثه الخشبي، بل حتى "الرواكيب" التي كانت مأوى ومظلّة، لتتحول إلى وقود يطهو ما تيسر من الطعام، فاصوليا كانت أم عدسية.
في سوق "آخر محطة"، تضيق الممرات بحطام الأثاث: دواليب، ترابيز، أسِرّة، وحتى المكتبات التي كانت يوماً رمزاً للثقافة. أحد الأيام الحزينة في حياتي، كان عندما اضطررتُ لحرق مكتبتي الخاصة لإطعام أسرتي. شكسبير وعبد الله الشيخ ومصطفى سيد أحمد... أكلتهم النار في يوم لن أنساه أبداً.
ورغم هذا، يظل السؤال الذي يأخذ بخناق الجميع هو: "ناكل شنو؟"
إنها مأساة يومية تتكرر، والجوع الكافر لا يرحم. أتذكر المواطن "ك"، الذي وجدت جثته بعد أيام من وفاته، متحللة في وحدته القاسية. الجوع لم يترك له فرصة للنجاة، وكأنه القاتل الخفي الذي لا يظهر إلا في صمت.
قلتُ للدكتور أنور شمبال، أستاذ الصحافة بجامعة الفاشر: "عندما تتوقف الحرب، يجب أن نقيم تمثالاً للعدسية في المدخل السماوي للسودان. العدسية أنثى، ووقفت معنا حين عزّ الفول."
ربما، في عالم أكثر عدلاً، تستحق العدسية مكاناً على علم السودان، تماماً كما تفعل صفقة القيقب بعلم كندا.
عبدالله رزق أبو سيمازة
"مافي كهربا". وقبلها "مافي غاز". كلمات بسيطة لكنها تكشف عن أزمة أعمق، أزمة الوقود، التي تزداد وطأتها مع غلاء الفحم والحطب، ومعها تتخلق المجاعة بصمت ثقيل، تهدد بحسب تقارير الأمم المتحدة نحو 25 مليون سوداني.
نسيتُ أن أضيف: "مافي قروش". لا عمل ولا مصدر دخل، والأساسيات أصبحت ترفاً بعيد المنال، فأسعار السلع الضرورية - التي تتضاءل في الأسواق - ترتفع بلا هوادة، وتتجاوز إمكانيات المواطن البسيط. اضطر كثيرون إلى بيع ما يملكونه من أجهزة منزلية مستعملة بأسعار زهيدة، في محاولة بائسة لتوفير الحد الأدنى من أساسيات العيش: دقيق، رغيف، سكر، عدس، بصل، زيت... القائمة تطول، والمعاناة أعمق من أن تختصر.
"مافي بنزين". مصدر رزق آخر ينسد أمام العديد من الأسر. الركشات توقفت عن العمل بشكل شبه كامل مع شح البنزين وارتفاع أسعاره الجنونية (ما بين 30 ألف جنيه إلى 40 ألف للجالون). بات مشهداً مألوفاً أن ترى أسرة تدفع ركشة محملة بصهريج مياه لملء خزانها من أقرب بيارة، والمياه غالباً مالحة أو مرّة، لكنها مجانية، فالآبار العذبة أبعد من أن تطالها الأيدي أو الإمكانيات.
لكن رحمة السماء لم تغب تماماً. أمطار غزيرة هطلت مؤخراً على الوادي الأخضر، خففت قليلاً من أزمة المياه الحادة، ووفرت لبعض الأسر ما يسد احتياجاتها الأساسية، حتى لو بشكل مؤقت.
الأسر التي لا تملك دعماً مالياً من الخارج تعيش أسوأ أيامها. أصحاب الدكاكين يرفضون إعطاء الدين، فمن الواضح أن المدينين لن يتمكنوا من السداد قريباً. حتى الصحفي عبد الوهاب موسى، الذي لجأ لبيع الخضار في مدينة الصحفيين بداية الحرب، توقف عن عمله بسبب ضعف القوة الشرائية للمواطنين.
في ظل هذه الظروف القاسية، تلجأ الأسر لحلول تبدو أقرب إلى المعجزات. كثير منها بدأ يبيع أثاثه الخشبي، بل حتى "الرواكيب" التي كانت مأوى ومظلّة، لتتحول إلى وقود يطهو ما تيسر من الطعام، فاصوليا كانت أم عدسية.
في سوق "آخر محطة"، تضيق الممرات بحطام الأثاث: دواليب، ترابيز، أسِرّة، وحتى المكتبات التي كانت يوماً رمزاً للثقافة. أحد الأيام الحزينة في حياتي، كان عندما اضطررتُ لحرق مكتبتي الخاصة لإطعام أسرتي. شكسبير وعبد الله الشيخ ومصطفى سيد أحمد... أكلتهم النار في يوم لن أنساه أبداً.
ورغم هذا، يظل السؤال الذي يأخذ بخناق الجميع هو: "ناكل شنو؟"
إنها مأساة يومية تتكرر، والجوع الكافر لا يرحم. أتذكر المواطن "ك"، الذي وجدت جثته بعد أيام من وفاته، متحللة في وحدته القاسية. الجوع لم يترك له فرصة للنجاة، وكأنه القاتل الخفي الذي لا يظهر إلا في صمت.
قلتُ للدكتور أنور شمبال، أستاذ الصحافة بجامعة الفاشر: "عندما تتوقف الحرب، يجب أن نقيم تمثالاً للعدسية في المدخل السماوي للسودان. العدسية أنثى، ووقفت معنا حين عزّ الفول."
ربما، في عالم أكثر عدلاً، تستحق العدسية مكاناً على علم السودان، تماماً كما تفعل صفقة القيقب بعلم كندا.