أطفال السودان.. مواليد (بُرج الحُروب)
خالد ماسا
بطريقة ما ومنذ إندلاع حرب أبريل، ومنذ بداية تشكُل المواقف منها، يمكننا أن نلاحظ وبشكل واضح بأن هنالك أصحاب مصلحة في إجراء تعديل وراثي لموقف الذين إختاروا "لا للحرب"، بحيث قاد التعديل توصيف الموقف من الحرب في حد ذاتها إلى الموقف بجانب طرف دون الآخر في الحرب على الرغم من وضوح شمس الموقف من عدم إقرار أصحاب هذا الموقف بان وقف الحرب لديهم لا يعني بالضرورة العودة للمربع الذي صنعها وكأن شيئا لم يحدث منذ الخامس عشر من ابريل 2023م.
موقف "الحياد" في الحرب والوقوف في المربعات "الرمادية" هو من المواقف المعتمة أخلاقياً، وهو من الحلول السهلة التي يريد أصحابها التنصُل من مسؤولية دفع تكاليف هذه المواقف. وبالضرورة أيضا فإن تقسيم المواقف من الحرب في السودان كملعب تنقسم مدرجاته بين متنافسين، بغض النظر عن تكاليف هذه اللُعبة على السودان كدولة وشعب، هو الأكثر عتمة أخلاقية من بين كل المواقف في الحرب.
فمن على مقاعد مسرح "الخراب" يُمكن للمشاهد أن يقف على مشهد الحرب، ويجرد تكاليفه التي ستقوده بكل سهولة إلى رغبة ودوافع كبيرة لدعم جهود إيقاف هذه الحرب بالثمن الذي يُمكننا من شراء ما تبقى من هذا الوطن، وشراء بعض أحلام شعبه في الحرية والسلام والعدالة.
لا يُمكِن لإستمرار الحرب بطريِقتها التي أكلت من عُمر السودان وشعبه ما يُقارِب العامين، وأتت على بقايا ما خلفته حروب أخرى شهدتها الدولة السودانية في التاريخ القريب والبعيد، أن تبني "مُدماكا" واحدا في جدار مستقبل الدولة السودانية التي لا يقول ماضيها قبل الحرب بإن الأوضاع كانت مثالية وتنعقد عليها آمال الاجيال القادمة، إلا أن تلك الاوضاع لم تكُن تنقصها هذه الحرب لتزيد طين الخراب السوداني بِلّة.
خراب الحرب يُمكِن أن تراه أي عين، وإن كان بها رمد، في تقارير المنظمات الدولية ذات الاهتمام بقضايا كقضايا الطفولة والتي تحمل أرقامها المخيف في مستقبل السودان واجياله القادمة.
خطاب الكراهية.. مخزن ذخيرة هذه الحرب هو "الثدي" الذي يرضع منه الأطفال الآن، ويتعلمون من القيم التي فيه ويتداولون مصطلحاته ويتعرفون به على المجتمع الذي يُريده دعاة الحرب، ويشكلون به وجدان جديد لهذه الأمة حجر الزاوية فيه هو الاعتماد على الجهل.
وعندما تقول تقارير "يونيسيف" بان 90% من 19 مليون طفل في سن الدراسة قد فقدوا السبيل إلى التعليم بسبب الحرب، فعلينا أن نعلم بأنهم صاروا صيداً سهلاً لمناهج مدرسة الكراهية التي ستحرق مستقبل السودان كما حرقت ماضيه وحاضره.
العين الداعية لايقاف الحرب تنظر الآن لآلاف الاطفال الذين تُشحن أرواحهم بمشاعر الحرب، وتتشكّل ثقافتهم بالثقافة المتاحة أمامهم في المجتمع المحيط والغير مٍدرِك لآثار ذلك على صناعة مستقبل السودان.
ما يقارب 4 مليون طفل سوداني أجبرتهم ظروف الحرب الى أن يتركوا مساكنهم وأن يعيش 3 مليون من هؤلاء تجربة النزوح بكل أهوالها وويلاتها. وهي التجربة الأكبر من سنهم وقدراتهم، والأكثر تأثيراً في بناء شخصياتهم وبناء تصوراتهم حول الوطن التي ينتمون له. بينما أضطر مليون آخرين أو يزيد، بسبب إستمرار حركة اللجوء لدول الجوار، لخوض تجربة اللجوء بكل تعقيداتها يعانون ما يعانون من ظروف هم ليسوا على إستعداد لتحمل تكاليفها.
إستمرار الحرب في السودان يعني بالضرورة ازدياد الحاجه لتعويض الفاقد البشري والفرصة سانحة بذلك لانتهاكات تطال الأطفال بتجنيدهم قسراً ليكونوا وقود هذه الحرب، التي كلما إستمرت كلما انخفضت المعايير الأخلاقية في التعامل مع شريحة الأطفال وإزدادت معدلات الانتهاكات التي يتعرضون لها.
إستمرار هذه الحرب يُراكم الأزمات على أولئك المحبوسين في مناطق إشتعالها، ويمنع عنهم وصول المساعدات الإنسانية ويُغلق مساراتها. ولا يمكن العاملين في المنظمات المعنية بشؤون الطفولة من إدراك ما يمكن إدراكه من أطفال السودان فيصيروا الى ما صاروا إليه بعد مُضي عامين الحرب بمشكلات تتعلق بسوء التغذية الحاد جراء عدم توفر الطعام والمياه الصالحه للشُرب وعدم توفر اللقاحات للتطعيم والوقاية من الامراض وتدهور الصحة النفسية، بالاضافة لاحتياجات قدرتها يونسيف بمبلغ 240 مليون دولار بالضرورة لن تتوقف عند هذا الرقم طالما أن الحرب لا زالت تدور.
الدعوة لايقاف الحرب بالأساس هي انحياز لهؤلاء الأطفال ولمستقبل السودان، وتعاطي بكامل المسؤولية مع أزمة لا يجوز معها الحياد في الحرب، ولا يجوز أخلاقيا توصيف الموقف منها أو تفسيره لأغراض سياسية قصيرة البصر والبصيرة.
لا يمكن لأي تخطيط لمستقبل هذا البلد أن يتجاوز الإستثمار في رصيدها البشري وبارقامه التي جئنا على ذكرها آنفاً ولايمكن إنكار أن إستمرار الحرب يأتي خصماً على البنية التحية للصحة والتعليم وأنظمة رعاية الطفولة وبالتالي نشاتهم في بيئات تفتقر للتأسيس السليم الذي تكون مخرجاته أجيال قادرة على تجاوز تجارب الاجيال السابقة.
خطاب الحرب ليس فيه فقرات تقدم الحلول للأزمات التي ذكرناها وبتأثيرها على الأطفال ولا يحفل بغير الذي تحت قدميه من شهوات الانتصار للذات، حتى لو كان ثمن ذلك أن يقدم السودان جيل أو أجيال من أطفاله كقرابين حرب كريهة.
خطاب الحرب والكراهية لايرى في أطفال السودان وماتعرضوا اليه سبباً موضوعياً لايقافها ومخاطبة الضمير الوطني كي يصحو على هذه الكارثه ويتداركها لانقاذ بذرة خلاص السودان من دائرة الحروب الجهنمية.
خطاب الحرب والكراهية يصدر الآن من أجيال رضعت من ثدي ذات الحروب التي لم يعوذها في يوم من الأيام نافخي كيرها، ومرت بذات التجارب مع اختلاف التاريخ وتطابق الظروف. فسقط صوت خطاب الوعي والتنوير لصالح الخطاب الاقصائي الذي يصنع الحرب.
هم أنفسهم .. مواليد (برج الحروب) الذين لم تُعلمهم تجاربهم المريرة مع الرصاص بان مخرج هذه البلد من نفقها المظلم لن يكون عبر البندقيه وعبر خطاب الكراهية.