15/12/2024

و``حِمار دقيقة``

محمد غلامابي

خلّد التأريخ الديني والاجتماعي بين صفحاته العديد من الحيوانات، مثلما يفعل مع البشر، تنويها بأدوارها في حياة الناس، ومن بين تلك الحيوانات كان ذكر "الحمار".

وأشهر تلك الحمير "حمار العزيز عزير"، الذي ورد ذكره في سورة البقرة (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، الآية 259..

كما أن يسوع كان قد دخل اورشليم على ظهر حمار، كما جاء في العهد الجديد من إنجيل مَتّى، في دلالة على تواضعه، وعدم تكبره كما كان يفعل الملوك والأباطرة بإمتطائهم ظهور الخيل عند دخولهم فاتحين للمدن.

وقد عرفت المجتمعات الإنسانية الحمار منذ وقت بعيد، حيث دلل وجوده على مراحل تطوّر المجتمعات أو تخلفها، كما فصّل ذلك عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة. وقد إشتهرت في التأريخ عددا من الحمير من بينها "حمار جحا"، وهو شخصية فكاهية إنتشرت في جميع أنحاء العالم. واشتهر آخر خلفاء بني أمية في دمشق مروان بن محمد "بمروان الحمار"، حيث كان الخليفة معجبا بصبر، وجلد، وقوة تحمّل الحمار. ومن الحمير الشهيرة كذلك "الحمار الديمقراطي"، بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي أختاره المرشح الديمقراطي أندرو جاكسون رمزا لحملته الانتخابية عام 1828م، وظل رمزا للحزب الديمقراطي حتى عام 1870م، وقد كتب الأديب المصري المعروف توفيق الحكيم روايته الشهيرة "حمار الحكيم" في العام 1940م.

في السودان أعادت الحرب التي إندلعت في الخامس عشر من أبريل 2023م بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع السودانيين إلى عهد البداوة، وصارت الحمير تلعب ادوارا مهمة في حياة الناس. ففي ولاية الجزيرة ومع عمليات النهب الواسعة لسيارات المواطنين ومركباتهم العامة والخاصة، خلت ستة محليات بالولاية من جملة محلياتها الثمانية من المركبات، التي عمل أصحابها بنقلها إلى ولايات آمنة مثل القضارف، وكسلا، والبحر الأحمر، ونهر النيل وغيرها، وعاد لعربات الحصين والحمير مجدها الغابر، كوسيلة للتنقل، وكسب سبل العيش.

في هجوم لأفراد من قوات الدعم على قريتنا بغرب ولاية الجزيرة في مارس من هذا العام 2024م، سقط أربعة شهداء من شباب القرية. بكتهم القرية، ونصبت لهم سرادق للعزاء، فيما إنطلقت رصاصة طائشة لتصيب حمار محمد ود الفكي المشهور بـ (دقيقة) في مقتل. كان "حمار دقيقة" لا يخصّه وحده، فهو حر وطليق يستخدمه أهل القرية في مشاويرهم الخاصة، في نقل امتعتهم، أو مرضاهم الى المشافي القريبة، أو في جلب المياه من بعيد، أو في طحن دقيق الذرة في طواحين القرى المجاورة، كما يتعلّم عليه الصبية كيفية ركوب الدواب. أما بالنسبة "لدقيقه" فكان رفيقه الوفي، يتعهّده بالرعاية والحب، كعضو أصيل من اعضاء عائلته، ويعلم أهل القرية بتلك المكانة، لذلك حين سرى خبر مصرعه سريان النار في الهشيم، سارع أهل القرية إلى تعزيته. أما أنا فإنني أجدّد العزاء لمحمد ود الفكي "دقيقة"، في رحيل حماره العزيز، الذي هو حياته فعلا، وأفتح بهذه الكتابة صفحات التأريخ لأضع "حماره" بين دفتيه دليلا ساطعا على شناعة الحرب، ليس فقط بإزهاقها لأرواحنا كبشر، وإنما في مصادرتها لجميع مظاهر الحياة والموجودات من حولنا.

معرض الصور