16/12/2024

لنحافظ على 400 لغة من الاقتتال في ما بينها

يوسف عبد الله

يعد السودان من البلدان الثرية بالثقافات المتعددة. كان حقا قارة في بلد واحد. يمتد في رقعة جغرافية تبلغ مليون ميل مربع. كان ذلك قبل أن ينقسم إلى بلدين ويكون دولة جنوب السودان. انفصل جنوب السودان في العام 2011، لكن ظل تأثيره فعالا.

لقد كان السودان مليئا وزاخرا بتعدد خبرات أهله الحياتية، وبذلك غنيا بموارده البشرية والمادية والزراعية. وفوق هذا وذاك، كان يتميز عن سائر البلدان الأخرى بتعدده القبلي والإثني، والثقافي، وكذلك تعدده الديني، ما يعني اغتناء بلا حدود.

لقد كان هذا البلد خليطا من الأجناس، فمنذ العصور السحيقة ظل منطقة جاذبة لعناصر بشرية عدة. تشير الإحصاءات والأبحاث إلى أن العناصر المكونة للسودان تنقسم في مجملها إلى أكثر من 60 مجموعة، وتتفرع هذه المجموعات إلى 597 عرقية، وتتحدث أكثر من 400 لغة حيوية متداولة.

مع كل هذا التعدد، كان السودان يحافظ على مستوى من تماسك الاجتماعي والثقافي، ومتعايش سليما إلى حد كبير، وذلك بخبرات حياتية قادرة على احتواء أي خلاف ناشب بين سكانه.

لأسباب سياسية فوقية ومتشابكة، تم العبث بهذا الثراء، ما انعكس وبالا على البلد، ووصل إلى تخوم الحرب الأهلية المندلعة منذ شهر أبريل من العام الماضي، حين بدأ القتال على السلطة بين الجيش ومليشيا الدعم السريع. وصل فيها الاقتتال إلى مستوى مهولا من خطاب الكراهية المستعلي.

أدى هذا الخطاب فعليا الحرب (العبثية)، كما وصفت في أول أيامها، ومع هذا الحال السودان والمجتمعات السودانية على حافة الانهيار والتلاشي. وهذا هو الحدث المرعب، الذي بدا كما لو أنه بلا نهاية.

كان التحليل السياسي المواتي دائما هو أن النزاعات في السودان، الحديث جدا، هي صراعات بين ثقافتين: رعوية، من جهة، وزراعية من الجهة الأخرى. ويشير أصحاب هذا التحليل، على سبيل المثال، إلى ما كان يجري في ولايات دارفور سابقا. لكن مع مرور الوقت والإمعان في خطأ السياسات المرسومة، تعمم هذا الصراع وأخذ طابعا آخر، نزع فيه الخطاب السياسي إلى خلق أدوار ساسية للقبيلة وأدلجتها، وراسما صورة نمطية لكل قبيلة، وكل إقليم. مشكلا أحد أهم أسباب تغذية وتصاعد الحروب التي تجرى فصولها في السودان الحالي.

في الواقع، وبشكل أو آخر، قد لا يشذ الحال في السودان عن يقية الأحوال في دول العالم الثالث، حيث تشكل بنية القبيلة، وليست (القبلية)، مصدر من مصادر القوة، بيد أن ما جعل الأمر شديد الاختلاف هو ما كان يجري خلال حقبة (الإنقاذ 1989- 2019).

في هذه الحقبة جرى استيعاب القبيلة في الفعل السياسي وجعلها قريبة من النظام واقتصادياته بطريقة أو أخرى، أو يبعدها عنه. وهذه حالة انطوت على "عصبية"، بتعبير عالم الاجتماع ابن خلدون، طغت على أي مفهوم للوطنية في الدولة الحديثة، وتطورت معها النزعات القبلية، واتجهت نحو العنف وتصاعد حدة الصراع المسلح، ليصبح هذا الصراع ظاهرة شاملة، تتجاوز طبيعة النزاع القبلي القديم، إلى نزاع حول الوجود والسلطة في أعلى تجلياتها.

وفي الواقع، لم يكن نظام الإنقاذ مستعدا لحلحلة الصراعات الطفيفة، الناشئة أو المحتملة، بل استغل هذه المشاكل وعمل على تأجيجها إلى أوسع مدى يمكنه من البقاء في سدة السلطة.

ربما كان انعدام التنمية، أو قلتها، هو أحد الأسباب المقنعة لرفع الأصوات السياسية المطالبة بالحقوق، وهو حق سياسي مشروع، لكن اختلاط هذا الخطاب برغبة حكومة الإنقاذ في المزيد من السيطرة، أجج النعرات ورفع من حدة التوتر، وجعل الخطاب السياسي المطروح عبارة عن تبادل للإساءة الجماعية لا تحده حدود، خصوصا مع الحرب المستعرة التي قد تجعل الكل ضد الكل إلى ما لا نهاية.

معرض الصور