قاومت اليأس والإحباط وسط النازحين: الدراما كمعالج نفسي
محمد غلامابي
في محيط القيادة العامة للجيش السوداني حين كانت مجاميع متنوعة من السودانيين/ات تحتشد بآمالها وأحلامها من أجل التغيير، بدأت الصورة أمام ناظري كلحظة تاريخية نادرة تستحق التوثيق في كتاب التأريخ بروايات مختلفة.
صحيح كانت ثورة ديسمبر هي بنت التكنلوجيا بإمتياز. فعند هواتف الثوار كانت تبدأ المواكب والتحشيد والتخطيط لها، قبل أن تنطلق على الأرض، لكن عند بلوغ الثوار ميدان القيادة العامة كان المشهد أكبر من ان ترصده الهواتف النقالة. قلت يومها للكاتب والقاص احمد ابو حازم صاحب "يناير بيت الشتاء"، الفائزة بجائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي، "هذا التجمع النادر للسودانيين هو رواية تنتظر لمن يكتبها"، فكان ردّه "نعم، لكنها رواية لم تنته بعد"، وصدق أبو حازم. فقد دارت الأيام ليجد السودانيين انفسهم بعد ذلك التلاحم العظيم بالقيادة العامة للجيش السوداني مشردين بين نازح، ولاجيء، داخل وخارج الوطن، ولا تزال الرواية مفتوحة النهايات على قول ابو حازم.
تبحث هذه المقالة مرة أخرى عن أدوار للفنون في معادلة الحرب القائمة اليوم، وتتخذ من المسرح نموذجا، وتتبع جهود بعض الدراميين في مداواة جروح النازحين بمراكز الإيواء المختلفة.
البداية كانت من المخرج ربيع يوسف الحسن الذي قال (مع إنطلاقة الحرب في الخرطوم نظمنا ورشة بمدينة ود مدني، ضمت دراميين من المركز ومدني، بهدف التقاء الخبرات، ودحض الفرضية غير المختبرة بأن هناك جفوة بين مسرحيي الخرطوم والولايات، وكان نتاج الورشة عرض مسرحي بإسم "متاريس"، طفنا به مراكز النازحين بمدني، وقدمناه بقاعة الثقافة بوزارة الثقافة والاعلام، ودار المحامين. وكان مقدرا تقديمه في أماكن مختلفة لولا إجتياح مدني في ديسمبر. كما انتجنا مسلسلا إذاعيا لراديو دبنقا بإسم "جبل التغيير" من تاليفي وإخراجي بمشاركة فنانين من مدني والخرطوم. وقدمنا كذلك مع منظمتي اليونسيف وإنقاذ الطفولة مسرحية "نعيمة حامل" للمخرج عاطف البحر، وأخرجت انا "مجلة اسرتنا السعيدة".
وفي بورتسودان حيث يتواجد اليوم ربيع يوسف رفقة مجموعة من زملائه الدراميين قدّم ما يفوق الخمسة عشر عرضا مسرحيا، طاف بها العديد من مراكز الإيواء بالمدينة. يقول ربيع " قدّمت هذه العروض للفئات الاجتماعية المختلفة من النساء، والرجال، والاطفال، وكبار السن، وإشتغلت جميع هذه العروض على نبذ خطاب الكراهية، وترسيخ قيم العيش المشترك، والسلام، والصحة النفسية، وقضايا النوع الاجتماعي". وعلى خشبة مسرح الأدباء والفنانين ببورتسودان قدمت مسرحية "هسمني" والتي تعني بلغة البداويت "نتجاوز، ونتخطى"، ومسرحية "صمت" مع صندوق الأمم المتحدة للسكان. وآخر أعمالي كانت مسرحية "مشوار"، ولعب البطولة فيها من على خشبة المسرح فنانين تحدثوا بلغاتهم المحلية المختلفة، كالبداويت، والهوسا، والتغراي، والبجا، والنوبية، وغيرها إلى جانب العربية.
أما المخرج ساهر مصطفى فأراد التوثيق لاعمالهم الدرامية بذكر تفاصيل تلك الأعمال بداية من مسرحية "حكاية الحرب والسلام" من تاليف وإخراج عطا شمس الدين، وتمثيل رابحة محمد محمود، نزار جمعة، أمنية فتحى، أمين شبو، علا الدين ريحان، ثم مسرحية "في زمن الحرب" للكاتب الكويتي عبدالرحمن حمادي، وهي من إعداد أسامة مكسب وإخراج محمد عثمان، وتمثيل فرقة هبشتكات.
كما قدم مكسب أيضا من تاليفه وإخراجه مسرحيات "الحافة"و"كده وكده" من تمثيل فرقة هبشتكات. كما قُدّمت أعمال عديدة مثل "نجاة" لمحمود طالب وإخراج قاسم العربي، و"أسمع ياعبد السميع" من تأليف عبد الكريم برشيد، وتمثيل قاسم العربى، أمنية فتحى وإخراج ماهر حسن سيد، وأعمال لآخرين مثل أمنية فتحي، عاطف قطيري، وليد الالفي، اشرف بشير، فيصل حسن، ومحمد أحمد الفايلابي. وشاركت بالتمثيل كوكبة من الفنانين مثل عبد السلام جلود، إبراهيم خضر "كومك"، محمد آدم كاذا، امين شبو، أمير أحمد إدريس، رفعت السر، ناجي حواية الله، عامر ود عمك، نسيبة نجم الدين، محمد أحمد الزاكي، راضي فايز، وعبد الغفار خالد.
بالطبع فإن جميع هؤلاء الدراميين، و العروض التي قدّموها بمراكز إيواء النازحين كانت ترياقا ضد حالة الفقد التي يعيشها النازحون، أو كما يقول المخرج المسرحي الشاب ربيع يوسف الحسن في شجاعة نادرة (مثلما كانت هذه العروض هي خيارنا وسط النازحين للخروج من حالة التشتت، والتمزق، والضياع، كانت هي المَخْرَج لنا كمشتغلين على إنتاج هذه العروض من حالة الإحباط، واليأس، والفقر، إلى حالة من التوازن النفسي التي نحن في حاجة مستمرة لها).