18/12/2024

الطوفان وذاكرة البيوت

محمد غلامابي

` لماذا تركتَ الحصان وحيداً؟
لكي يُؤْنسَ البيتَ، يا ولدي،
فالبيوتُ تموتُ إذ غاب سُكَّانُها`
محمود درويش

لا تزال صورة تلك الطفلة الصغيرة التي كانت تلتقط عروستها من الارض، كلما افلتت منها، لتضمها بقوة بكلتا يديها على صدرها مرة أخرى، وهي تغادر بيتها في رحلة نزوحها إلى المجهول، من الصور الراسخة بذاكرتي ما حييت، قفذت إلى ذهني في تلك اللحظة وأنا اتأمل مشهد تلك الصغيرة، الصور الناطقة للشاعر امل دنقل، في نصه ` مقابلة خاصة مع إبن نوح`، فحين تستعيدها في حالتنا السودانية، تشعر لكأن دنقل يكتب طوفان الحرب الماثل، تأمّل ذلك:

جاء طوفانُ نوحْ!
المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً
تفرُّ العصافيرُ,
والماءُ يعلو.
على دَرَجاتِ البيوتِ
- الحوانيتِ
- مَبْنى البريدِ
- البنوكِ
- التماثيلِ (أجدادِنا الخالدين)
- المعابدِ
- أجْوِلةِ القَمْح
- مستشفياتِ الولادةِ
- بوابةِ السِّجنِ
- دارِ الولايةِ
أروقةِ الثّكناتِ الحَصينهْ.
العصافيرُ تجلو..
رويداً..
رويدا..
ويطفو الإوز على الماء,
يطفو الأثاثُ..
ولُعبةُ طفل..
وشَهقةُ أمٍ حزينة
جاءَ طوفان نوحْ.
ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ.
بينما كُنتُ..
كانَ شبابُ المدينةْ
يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ
ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين.
ويستبقونَ الزمنْ
يبتنونَ سُدود الحجارةِ
عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضاره
علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!
.. صاحَ بي سيدُ الفُلكِ - قبل حُلولِ
السَّكينهْ:
`انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!`

قلتُ:
طوبى لمن طعِموا خُبزه..
في الزمانِ الحسنْ
وأداروا له الظَّهرَ
يوم المِحَن!
ولنا المجدُ - نحنُ الذينَ وقَفْنا
(وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!)
نتحدى الدَّمارَ..
ونأوي الى جبلِ لا يموت
(يسمونَه الشَّعب!)
نأبي الفرارَ..
ونأبي النُزوحْ!

هكذا، كان طوفان الحرب، حين غمر بلادنا، أتى على كل شي ليغرقه. وحدها الأماكن التي كانت بمنجاة من الغرق، تلك التي أوت إلى جبل الذاكرة الشاهق. تجدها حاضرة في ونسات النازحين بمراكز الإيواء، معلّقة بخيوط من حنين الى تلك البيوت التي تحرسها الخيول، والحمير، والقطط، والكلاب، والدجاج، تمنعها الموت، بعد أن هجرها سكانها على قول درويش.

هي ذلك البيت الرحب الذي وصفه بركة سلكن (البيت بيتي، وبيت النملات العجولات، الستائر القديمة، والمروحة. بيت السحليتين الصغيرتين، والفأرة، البيت بيتي، وبيت الضب والعنكبوت، وبيت الذبابتين العالقتين، وبيت الثعبان الأرقط المتربّص بي)، يتحصّن النازحون بتلك الذاكرة، يهرعون إليها للتسلية، والتماسك، تعيدهم تلك الأماكن الضيقة بمراكز الإيواء لتلك البيوت الفسيحة، والمريحة بالجزيرة.

في الجزيرة الأرض ليست شحيحة، مثل الأنفس تماما، تتسع الحيشان `للساكنين أفواج`، وتمتد بمهلة، حتى أن الذين أضطرتهم الظروفهم للهجرة للمدينة في زمن السلم يستنكفون السكن في الشقق ذات الأبواب المغلقة، لأنهم الفوا تلك البيوت التي ورثوها عن اجدادهم. بيوت يقوم تصميمها إبتداء على المساحات الشاسعة، وتقوم فيها `الدواويين` لاستقبال الضيوف العابرين، أو المقيمين. تتنقل الأقدام بين البيوت بحرية، ومحبة مثل بيوت `حميد في (الرجعة للبيت القديم):

وأنا ماشي للباب البدون ما ادفرو / يفتح لي حنون أزهار بسيمتو يفرّشا / لا إنت مين لا كنت وين / ليه بالكتير شفّقتنا وراجين سعادتك بالعَشا / مع إنّو في الحلة الأمان أكبر من أهوال الزمان / وقدر الطيابا الفي الحشى / و ياهو الأكل في كل بيت / لا كشكره ولا في اختشى/ قراصة بي حبة ملاح / أو بي غباشة مرشرشة.

تتخطى البيوت في كونها سكناً إلى هُويّة ثقافية. فالأرض والانسان هما عماد تلك الهوية، التي تتصل بالدين، واللغة، والقيم الاجتماعية. فهوية المكان من هوية الإنسان، غير أن التغييرات القسرية التي تحدث في المكان من شأنها أن تحدث شروخا في الإنسان، وفي علاقاته الاجتماعية، من فقدانه للاطمئنان، والراحة، والحب، والحماية، وهو ما يفسّر الحنين الطاغي للأوطان الصغيرة `البيوت`.

وللبيوت روح تسكن في ذات الإنسان، تجوب في ذاكرته لتبقى جزءًا منه ومن كيانه وتاريخه وهويته. تبقى تلك الجدران الطينية التي تبين في أطرافها تشققات الزمن شاهدة على فترة من حياة الذين ساروا حياة النزوح. وجابوا عدة بقاعٍ، لتبقى تلك البيوت على بساطتها تسطر ملامح الإنسان بطبيعته الفطرية، وسجيته العفوية. هي شوق يبتلع ريق الغياب، ويمشي حافيا على جمرات الحنين، فكل قلوب النازحين اليوم هي قلب دنقل:

كان قلبي الذي نسجته الجروح
كان قلبي الذي لعنته الشروخ
يرقد الآن فوق بقايا المدينة
وردةً من عطن
هادئاً
بعد أن قال `لا` للسفينة
وأحبّ الوطن

معرض الصور