19/12/2024

معوقات التحول الديمقراطي في السودان

محمد غلامابي
تهتم هذه المقالة بنقاش عام حول جملة من المعوقات التي تعترض عملية التحول نحو " تداول سلمي للسلطة"، أو ما اصطلح عليه " بالتحول المدني الديمقراطي".وهي مساهمة ارجو لها أن تفتح الطريق نحو حوارات مثمرة حول تلك المعوقات، دون الإحاطة بها، أو تقديم أجوبة شافية لمن يطلب الوقوف على معوقات نمونا السياسي السوداني، وذلك لطبيعة التعقيدات الهائلة التي تواجه عملية الإنتقال إلى فضاء مدني ديمقراطي، وسلام مستدام.

قسمّت المقالة المعوقات إلى معوقات ذات طبيعة ببنية الدولة، وأخرى مرتبطة بالمجتمع، وثالثة ترتبط بهشاشة القوى المدنية الديمقراطية، ورابعة تتصل بسياسة الحزب الواحد، وهي تقسيمات فرضها علم الاجتماع السياسي.

في مسألة طبيعة بنية الدولة كإحدى معوقات الانتقال الديمقراطي فإن السلطة السياسية في السودان وبخاصة في وجهها الديكتاتوري لا تعترف بسلطة الشعب، فهي تحوز على السلطة بتوهمها لإمتيازات تاريخية كورثة للمستعمر، أو عبر الانقلابات العسكرية، وهي في حركة صعودها المستمرة إلى دفة قيادة الدولة لا تضع إعتبارا للجماهير، وحقها في كيفية إدارة الدولة، وفي هذه الحالة يكون من الصعب بمكان أن تتخلى السلطة السياسية عن منطق الوصاية على الجميع لتفتح الطريق نحو مجال مدني ديمقراطي حقيقي يمثّل الارادة الشعبية، كما أن بنية السلطة لا تتغير بذهاب الحاكم بالموت مثلا _ حيث لا يجوز في حقه التغيير _ إذ سرعان ما يكون هناك خلف يحمل سمات، وصفات، وسياسات السلف، ونجد في الحالة السودانية تمظهرات حقيقية لمن يرى لنفسه الحق في السلطة بالامتياز التاريخي، أو بالانقلابات العسكرية طويلة الأجل، والتي تكرّس بنهاية المطاف الدولة ومقوماتها لصالحهم كفئة قليلة.

فيما يتصل بالطبيعة الاجتماعية كمعوق لعملية الانتقال الديمقراطي علينا الإقرار بهيمنة العقل الديني المسيطر على السودانيين، والذي يمثله بإمتياز تيار الإسلام السياسي بوجوهه المتعددة، عبر مختلف الحقب السياسية، حيث برز ذلك الأثر في أول محاولة لكتابة دستور سوداني، وإصرار النواب على تعريف السودان كدولة عربية إسلامية،ومثّل هؤلاء النواب منذ ذلك الزمان الباكر شكل وطبيعة المجتمعات السكانية، التي تقبع في ثالوث الفقر، والجهل، والمرض، لذلك ظلت الدعاية التي يعتمدها تيار الإسلام السياسي تقوم على الإستثمار في هذا الثالوث، والتخويف من خطورة القيم المرتبطة بالدولة المدنية الحديثة كالعلمانية، والحرية، وحقوق الإنسان على معتقدهم الديني.

إما عند الحديث عن هشاشة القوى المدنية الديمقراطية فإنه يجب التفريق بين هشاشة ذاتية لتلك القوى، وأخرى مرتبطة بالنظام السياسي القائم، ففي السودان حملت القوى السياسية المدنية ثقل مواجهة الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية، مما شغلها عن بناء تنظيماتها على أسس مدنية حديثة وقوية، في المقابل ظلت السلطات الاستبدادية تنشط في تخريب حركة التطور والتحديث لتلك القوى المدنية الديمقراطية، أو بتشويه تلك القوى من خلال الحاقها بسلطتها، مع ممارستها القمع الشديد لتلك التي تفشل في الحاقها بسلطتها، أو تدجينها، لكن هذا لا يعفي القوى السياسية المدنية الديمقراطية من تبني الديمقراطية كبرنامج سياسي حقيقي للتحول الاجتماعي وسط قواعدها، وبناء منظوماتها تلك على أسس حديثة وقوية، تلبي تطلعات عضويتها، وبالذات فئة الشباب الجامحة نحو التغيير السريع والجذري.

بالنسبة لأهمية مسألة "الحزب الحاكم الواحد" كمعوّق لعملية الانتقال الديمقراطي فهي لا تمثّل حقيقة، فهي عبارة عن تيارات إجتماعية مختلفة تسعى حثيثا لتحقيق مصالحها من السلطة السياسية، وقد شهدنا كيف فارق الترابي البشير في العام 1999م، ثم كيف أصبح لعلي عثمان طه تياره، مثلما لنافع علي نافع هو الآخر تياره قبيل قيام الثورة الشعبية في ديسمبر من العام 2018م، ثم الانشقاق الذي رشح مؤخرا بين مجموعة احمد هارون، ومجموعة علي محمود في شهر أكتوبر من هذا العام 2024م، داخل حزب المؤتمر الوطني المحظور، واجهة " الحركة الاسلامية"، لذلك الصحيح أن نعتبر وجود " التيار" ذو المصلحة المشتركة واحدا من معوّقات التحول الديمقراطي في السودان، وكلنا نعرف أن تيارا وسط الاسلاميين ظل يناهض كل محاولات الانتقال الديمقراطي في السودان ليتجلى سنام تلك المناهضة في إشعاله للحرب الدائرة الان في السودان، ورفضه لكل مبادرات الحل السلمي.

وهذا هو موضوع مقالنا القادم " حرب الخامس عشر من أبريل: من يستثمر في الموت"

معرض الصور