أيها الشهداء أخبروا الله بكل شي
محمد غلامابي
اُعَلِّقُ أسْمَاءَكُمْ أيْنَ شِئْتُمْ
فَنَامُوا قلِيلاً، وَنَامُوا عَلَى سُلَّم الكَرْمَة الحَامضَهْ
لأحْرُسَ أَحْلاَمَكُمْ مِنْ خَنَاجِرِ حُرَّاسِكُم
وانْقِلاَب الكِتَابِ عَلَى الأَنْبِيَاءْ
وَكُونُوا نَشِيدَ الذِي لاَ نَشيدَ لهُ
عِنْدمَا تَذْهَبُونَ إِلَى النَّومِ هَذَا المَسَاءْ
أَقُولُ لَكُم:
تصْبِحُونَ عَلَى وَطَنٍ
حَمّلُوهُ عَلَى فَرَسٍ راكِضَهْ
وَأَهْمِسُ:
يَا أَصْدِقَائيَ لَنْ تُصْبِحُوا مِثْلَنَا.
حَبْلَ مِشْنَقةٍ غَامِضَهْ!
محمود درويش من نشيد "الشهداء":
عَبَرَتْ في هذه الحرب اللعينة الآلاف من أرواح الشهداء، والشهيدات إلى الضفة الأخرى، لم يكن أياً منهم يحمل سلاحا ليقاتل به طرفاً من اطراف الحرب، باغتتهم بندقية خرساء، وعقل أكثر خرساً ليقرر نهايةً لحياتهم، ولو عادوا من الموت لما أختاروه، فالحياة دائما فيها ماهو مؤجل ينتظر أن ننجزه.
جميع الشهداء الذين قضوا على أيدي المتصارعين في هذه الحرب هم من الخالدين، لن يكونوا مجرّد أرقام في كتاب التأريخ، بل هم الدليل الباهر على قسوة القلوب، والعقول المغلقة، وإلا قل لي بربك كيف طاوعا قلب وعقل ذلك الجندي اللئيم في تلك اللحظة؛ لينتزع طفلا غضّاً؛ طريّاً؛ بريئاً من حضن أمه؛ ليلقي به في عرض النهر، وسط صرخاته، وتوسّلات أمه الجَزِعَة؟
أخصص هذه الكتابة إذن لبعضاً من أولئك الشهداء، والشهيدات؛ من النساء، والأطفال، والرجال، ادسّهم في كتاب التأريخ؛ وأعتذر لمن غاب ذكره هنا؛ ولم يغب هناك، مِنْ مَنْ أزهقت أرواحهم البراميل المتفجّرة لسلاح الجو السوداني واستخباراته، أو القوات المتحالفة معه، أو من قضى على أيدي مليشيا الدعم السريع، أو القوات المتحالفة معها.
هذا هو الطفل مهنّد محمد موسى العجب (3 سنوات) من قرية (التومسة) بمحلية جنوب الجزيرة، ينتزعه احد جنود الدعم السريع من حضن أمه؛ ويلقى به في الخزّان، وكانت أمه خطفته من بين إخوته، وأسرعت الخطى تخشى عليه من طلقة ما، لتنتظره تلك الأيادي الآثمة، والقلب الحجر؛ لتلقي به مثل حجر؛ لا كبشر حقّه الحياة، والحياة الكريمة.
في الخامس من نوفمبر الماضي كانت الطفلة نهى ياسر عبد الله الإعيسر "5" سنوات، من قرية "بريدة" بشرق تمبول، في حجر أمّها، في طريق نزوحهم وفرارهم من الموت إلى شندي، هاجمت قوة من مليشيا الدعم السريع العربة التي كانت تقلّهم، وأطلقت عليهم النيران، لتقضي عليها رصاصة قاتلة.
في قرية " المسيد" بمحلية الكاملين بطريق الخرطوم مدني؛ في السابع من سبتمبر الماضي، كانت أستاذة الفيزياء ندى إبراهيم علي حامد الجعلي عائدة من مدرستها؛ ورغم الرهق؛ أعدت الطعام والشراب لأسرتها، وحين همّوا للنوم، تسوّرت مجموعة من جنود الدعم السريع دارهم؛ طلبوا المال؛ وحاولوا الاعتداء عليها؛ قاومتهم بشجاعة؛ ليطلق أحدهم عليها رصاصة قضت على روحها بالمستشفى في اليوم التالي.
وفي السادس والعشرون من أكتوبر الماضي بكى أهل مدينة ودمدني؛ وبخاصة الرياضيون لاعب فريق الاتحاد ود مدني لكرة القدم مؤتمن نصر الدين " بتموني"، والذي قضى هو الآخر على أيدي افراد من الدعم السريع وهو في طريقه للصلاة بأحد مساجد المدينة.
وفي منتصف سبتمبر الماضي فتحت قوة من الدعم السريع نيرانها على حافلة ركاب كانت متجهة من مدينة كسلا إلى قرى الحلاويين بالجزيرة، وذلك عند إرتكاز كبري رفاعة، كانت إحدى تلك السيدتين الطالبة بكلية الطب بجامعة الجزيرة الدفعة "43" ترتيل قريب الله محمد علي من قرية " الشيخ البصير الحلاويين "، بمحلية الحصاحيصا، وقد أصيبت ترتيل بطلقة في رأسها نقلت على إثرها إلى مستشفى الحصاحيصا لتفارق روحها هناك.
ومن الشهداء الذين قضوا في الرابع عشر من سبتمبر الماضي داوود محمود من "بركات الرئاسة" بود مدني؛ كان بمعية بن أخته، أخرجه جوع أطفاله بالبيت؛ قصد الخلاء الفسيح، حتى يجلب لهم نبات "الموليتا"، وهو من نباتات الخريف، التي لا يزرعها أحد، تقوم هكذا؛ فأعترض طريقهم جنود من الدعم السريع؛ طالبوهم بالمال، فأعتذروا؛ وقاموا بتفتيشهم؛ ثم أطلقوا عليها الرصاص؛ لتصيب إحداهم داوود؛ نقل على إثرها؛ لترتقى روحه الطيبة.
ومن الشهداء الذين قضوا في معتقلات إستخبارات الجيش السوداني صلاح الطيب المحامي عضو حزب المؤتمر السوداني، ورئيس فرعية الحزب بمدينة "العزّازّي"، التابعة لمحلية المناقل، حيث قامت في شهر مايو الماضي قوة من الاستخبارات العسكرية بخطفه من منزله؛ و حبسه؛ وتعذيبه، ثم قتلته؛ في جريمة مركبة؛ والتهمة هي التخابر مع مليشيا الدعم السريع؛ والتي طالت العديد من أعضاء لجان المقاومة بالعديد من المناطق، ولايزال يقبع بسببها عددا منهم بمعتقلات الاستخبارات العسكرية، والأجهزة الأمنية الأخرى.
وفي مدينة الهلالية بشرق الجزيرة قضى أكثر من 670 شخص، بعد حصار الدعم السريع للمدينة في نوفمبر الماضي، إما بالرصاص المباشر؛ أو بسبب المرض؛ وانعدام الرعاية الصحية؛ وكان من بين الشهداء " 293" إمرأة، و "53" طفل.
أما مدينة طابت بالجزيرة، فقد بكت بحرقة في يوم الأربعاء الثاني عشر من ديسمبر الجاري إستشهاد إبنها محمد عبد الرحمن الشهير " بكيرو"؛ والذي قتلته قوات من الدعم السريع في سوق المدينة من أجل سلبه جنيهات، ويعتبر كيرو من أنشط الشباب في العمل الطوعي والانساني، يتواجد في أفراح وأتراح الناس، ينهمك في خدمة الناس؛ وإكمال النواقص؛ ونعاه أهل المدينة، وأصدقائه بمواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.
وأختم بالشهيد الحاج قسم السيد بابكر "86" عام؛ من قرية " أبو سقرة آدم" بريفي الحاج عبد الله بمحلية جنوب الجزيرة؛ وهو كما ترون شيخ مسن؛ أنهت حياته طلقة ليست طائشة في الثامن والعشرون من شهر نوفمبر الماضي.
بالقطع فإن عداد الشهداء كبير جدا بولاية الجزيرة؛ وغيرها من ولايات السودان المتأثرة بالحرب؛ لن يغفلهم التأريخ إذا أغفلتهم هذه المقالة العجولة؛ قضوا جميعا دون ذنب؛ وهم إلى جوار العدل؛ الحكيم؛ الخبير؛ العليم؛ لكننا نطلبهم أن يخبروا الله بكل شي عن هذه الحرب العبثية اللعينة، وهو بها عليم؛ وأن يرفعها عن بلادنا، ويعم الأمن، والسلام، والطمأنينة، والخير؛ والنماء؛ والتقدم.