
الحرب الجارية، هل ستكون آخر حروب السودان الداخلية؟
عبدالله رزق ابوسيمازه
ينطوي التساؤل عما اذا كانت الحرب الحالية، التي وصفها بعض أطرافها بالعبثية، ستكون آخر حروب السودان الداخلية، على إيماءة لراهن الجهود والمساعي الدولية، خاصة، الجارية لإنهائها. وعما اذا كانت ستتوفر على ضمانات لعدم تجدد الحرب، حال توقفها.
ان تكون الحرب الحالية خاتمة الحروب السودانية، ليس مجرد احتمال او محض أمنية، وإنما هو فرض أخلاقي وانساني، يتعين على الجميع النهوض به. يقتضي الأمر التوقف عند الأسباب الجذرية لتلك الحروب لغرض اجتثاثها، لمصلحة سودان متسامح، متصالح مع نفسه، وطنا جدير بأهله. وهي مهمة قصّرت عن بلوغها الحركة السياسية، على الرغم من انه على مستوى التنظير، قد جري التأكيد مرارا، على ان مشكلة الحرب، غض النظر عن ميدانها، في الجنوب او دارفور، او اي إقليم آخر، هي مشكلة السودان نفسه. غير ان الممارسة الفعلية، من موقع السلطة، قد سلكت مسلكا مختلفا، قاصرا، بتبعيض الحلول، الخاصة بهذه الحرب او تلك، والتي لم تبلغ ملامسة جذور تلك المشاكل، وهي جذور الحرب. وما الحرب الأخيرة، (15 أبريل ٢٠٢٣) غير حلقة من سلسلة المواجهات الدامية، التي ظل السودان يتردي فيها سبعين خريفا. لذلك يواجه السودانيون، بعد نهاية هذه العبثية، مهمة استثنائية، لا تقتصر على استعادة مسار الانتقال إلى الديموقراطية، فقط، وإنما إعادة بناء السودان نفسه من جديد، لا بدلالة التخريب والدمار الذي أحدثته الحرب في كل مجال، وإنما بدلالة ما اثارته وتثيره من اسئلة ومن مشكلات وقضايا، أيضا. وهي مهمة تتجاوز " الانتقال التقليدي"، الذي عرفته البلاد، بعد سقوط عبود عام 1964، وبعد سقوط نميري عام ١٩٨٥،وبعد سقوط البشير في ٢٠١٩،وربما خبرته أثر خروج الانجليز في ١٩٥٤، وتتخطي كل ذلك إلى مايمكن وصفه بالانتقال التاريخي من السودان المحتشد بتناحرات مكوناته، الي السودان المتصالح مع نفسه.
قد لا يتصور إعادة انتاج وفاق ١٩ ديسمبر ١٩٥٥، الذي تمر ذكراه الان، مثالا او نموذجا لما يمكن أن يكون عليه سودان ما بعد الحرب، السودان المتصالح مع نفسه، كهدف للمرحلة التالية. ومع ان مشهد ما عرف بالتوافق الوطني على الاستقلال في داخل البرلمان، قبل ما يقرب من السبعة عقود، قد حجب، ولازال يحجب، الوقائع الحقيقية لصناعة الحدث - المساومات التي جرت في الكواليس، بالذات ـ لم يؤسس، كما اثبتت الأحداث، وفاقا حقيقيا راسخا ومتينا، تستند اليه البلاد في نهضتها الموعودة.
قد تكون الحرب الداخلية في كيان سياسي ما، وبما هي امتداد للسياسة، تعبيرا عن شيخوخته، واضطراب العلاقات الناظمة لمكوناته الاجتماعية والسياسية، غير ان في الخبرة السودانية، والتي تكشف عن تلازم اندلاع الحرب مع الصرخة الأولى لميلاد الكيان الوطني، ما قد يشي بأن السودان قد شاخ قبل الأوان، على الاقل. وربما كان على الوطنيين الذين ورثوا هذا الكيان السياسي، مثل " الصحن الصيني"، من الاستعماريين، الاتراك والانجليز، ان يتقصوا بشأن صلاحيته وقابلته للحياة.
تفترض اطروحة " السودان الجديد"، كاحدث وصفة سياسية، لخروج البلاد من دوامة الحروب، إيغال السودان في القدم والشيخوخة. وتلتقي نظريا واستراتيجيا مع شعارات "إنقاذ البلاد " و "الخلاص الوطني" و "تحرير السودان".. الخ. لكن الحركة الشعبية لتحرير السودان، بعد وفاة مؤسسها، الدكتور جون قرنق دي مبيور، قد اختزلت طموحها "القومي " في "جنوب مستقل "، بدلا من "سودان جديد"، تأسيسا على "رؤية قرنق". وقد اكتفى أبناء دارفور، الذين حملوا السلاح ضد نظام البشير، منذ العام ٢٠٠٣، متأثرين بخطى الحركة الشعبية، بقيادة قرنق، بما تيسر لهم من مكاسب عبر جولات التفاوض العديدة مع النظام، عوضا عن تحرير السودان، كمرادف لتحرير دارفور. لذلك بقيت مهمة تحرير البلاد من القيود التي تكبلها، ايا كانت، ومن الاوضاع التي تدفع بها نحو الحروب،او ما يعادلها من أجندة، معلقة.
لعل ما هو أكثر إلحاحا الان، ليس وقف الحرب وحسب، وإنما الحيلولة دون وقوع حروب جديدة، فضلا عن الحفاظ على ما تبقى من سودان، في وقت تستعر فيه النزاعات الانفصالية، التي تغذيها الحرب، وخطاب الكراهية، والعنصرية والاصطفاف الاثني والجهوي.