تم النشر بتاريخ: ٧ أكتوبر ٢٠٢٥ 18:45:05
تم التحديث: ٧ أكتوبر ٢٠٢٥ 19:00:24

العقلية الثنائية.. كيف قيدنا أنفسنا دون أن نشعر؟

<p>مأمون حمزة حامد</p>

مأمون حمزة حامد

"إنت مريخابي ولا هلالابي؟ إنت حزب أمة ولا اتحادي؟ إنت مع الجيش ولا مع الدعم السريع؟!"

أسئلة من هذا النوع تلخص، باختصار مؤلم، العقلية التي ترسخت في المجتمع السوداني منذ عقود. عقلية لا تؤمن بالتنوع ولا تترك مساحة للتفكير الحر. عقلية ترى العالم من خلال عيون الأبيض والأسود فقط، فلا مكان فيها للرمادي، ولا مساحة للاجتهاد أو الحياد أو حتى البحث عن خيار ثالث. منذ طفولتنا، تربينا على التلقين لا الفهم، على الحفظ لا التأمل، وعلى ترديد الإجابات الجاهزة لا طرح الأسئلة الذكية. نجد أنفسنا دائما أمام خيارات محددة سلفا، مفروضة علينا، لا نملك فيها حرية الاختيار، وإن تجاوزناها يتهموننا بأننا عنيدون، أو خونة، أو ببساطة "متفلسفون".

أنا مثلا لا أشجع لا الهلال ولا المريخ. أشجع فريق الموردة، لأنني من أم درمان وأسكن بجوار ملعب الموردة. صديقي من القضارف يشجع السهم، وآخر من شندي يشجع أهلي شندي، ولكننا جميعا نشجع منتخب السودان. فلماذا تحصرونني في خيارين فقط وكأن لا وجود لغيرهما؟ الأمر لا يقتصر على الكرة، بل يمتد إلى السياسة والمواقف الوطنية وحتى العلاقات الاجتماعية. لماذا يجب أن أكون مع الجيش أو مع الدعم السريع؟ من قال إن الخيارين هما النهاية ولا وجود لبدائل؟ لماذا هذا التضييق المستمر للعقل والخيال وكأننا لا نملك القدرة على تجاوز ما هو مطروح؟

هذه الطريقة في التفكير هي واحدة من أسباب تخلف السودان، رغم أنه بلد غني بالموارد والإمكانات، لكن عقول أبنائه وقادتهم مكبلة بقيود الانتماءات الجاهزة، والأفكار المعلبة، والولاءات الضيقة. المشكلة الأساسية ليست في الموارد، بل في الإنسان. في طريقة تفكيره، وفي طريقة اختياره، وفي قدرته على تجاوز ما هو شائع إلى ما هو صائب. القادة الذين توالوا على حكم السودان ما زالوا أسرى لهذه الثنائية القاتلة، فكيف ننتظر التغيير من عقل لا يعرف التجديد؟

من يسعى لاتخاذ موقف أو قرار، لا بد أن ينظر للأمر بعمق، لا بعاطفة لحظية أو انتماء أعمى. عليه أن يزن الإيجابيات والسلبيات، ويفكر في تأثير قراره على المدى القريب والبعيد. فكوني لا أشجع المريخ لا يعني أنني أشجع الهلال، وكوني لا أؤيد الدعم السريع لا يعني أنني مؤيد للجيش. هناك مساحات أخرى، رؤى أخرى، مواقف أكثر اتزانا وصدقا. حتى إن أردت تأييد أحد الأطراف، فلا بد أن يكون ذلك بعد دراسة واعية لتاريخه، لممارساته، لمواقفه، لإنجازاته وإخفاقاته، ولبرامجه المستقبلية إن وجدت. غير ذلك، فنحن لا نختلف كثيرا عن الكائن الذي يعيش لحظته دون وعي بالماضي ولا إدراك للمستقبل.

وهنا أطرح سؤالا بسيطا: هل فعلا لا يوجد في السودان من يدير شؤونه غير الجيش والدعم السريع؟ هل عقولنا قاصرة إلى هذا الحد؟ السودان أنجب العلماء والمفكرين والشرفاء، فأين هم من المشهد؟ ولماذا لا نمنحهم الفرصة بدلا من تكرار الفشل نفسه بصور مختلفة؟

دعونا نخرج من عقلية التلقين والولاء الأعمى. دعونا نتحرر من هذه الثنائيات المدمرة التي كبلت عقولنا وأعاقت تقدمنا. لقد صرنا في مؤخرة الأمم لأننا استبدلنا التفكير بالاتباع، والنقد بالتهليل، والعقل بالمجاملة.

كما قال تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا".

هذا الوصف لا ينطبق فقط على من تركوا العلم خلف ظهورهم، بل على كل من رفض استخدام عقله، وظل يحمل أفكارا لا يفهمها، ويكرر شعارات لا يؤمن بها، ويدافع عن مواقف لا يعرف إلى أين تقوده. التحرر الحقيقي يبدأ من العقل. وإذا أردنا مستقبلًا مختلفا، فعلينا أن نبدأ من هنا... من التفكير.

معرض الصور