تم التحديث: ٢١ نوفمبر ٢٠٢٥ 17:32:44

كونستاندينوس (كوستا) ماكريس على شرفة شقته في أثينا، قبل أيام قليلة من مغادرته إلى السودان. صحيفة (كاثيميريني)
لاجئون من ``اليونان الصغيرة`` في الخرطوم
صحيفة كاثيميريني
أليكسيا كالايتزي
18 نوفمبر 2025
عندما تثقل الأفكار كاهله، ينزل بانايوتي جافريليديس إلى البحر. ففي العامين الأخيرين، منذ اندلاع الحرب في السودان، يقيم في مخيمات بلدية زوغرافو في منطقة رافينا مع عائلات أخرى قادمة من الدولة الأفريقية الشاسعة. وبما أنه لم يسمح لنا دخول المخيم، التقيناه في الميناء.
يقول الرجل الستيني وهو يحتسي قهوته بمرارة: "من الصعب في هذا العمر أن تفقد كل شيء في يوم واحد". كان بانايوتي جافريليديس واحدًا من حوالي 70 فردًا من الجالية اليونانية التي كانت تتقلص باستمرار. وُلِد وترعرع في الخرطوم، حيث كان جده قد هاجر إليها عام 1896. ويكرر العبارة نفسها كثيرًا أثناء حديثنا "كنا نعيش جيدًا في السودان".
هذا ما يرويه جميع اليونانيين السودانيين الذين تحدثت إليهم صحيفة (كاثيميريني)، بمناسبة الموجات الدموية الجديدة من الحرب الدائرة بين القوات الحكومية والمجموعة شبه العسكرية "قوات الدعم السريع"، اللذين تحالفا في الماضي، لكنهما اليوم يتقاتلان للسيطرة على السلطة. تتهم الحكومة الرسمية دولة الإمارات العربية المتحدة بدعم المتمردين بالأسلحة والمرتزقة، وهو ما تنفيه الإمارات. وقد أدت الحرب التي استمرت أكثر من عامين إلى أكبر أزمة إنسانية مسجلة في التاريخ، مع نزوح أكثر من 14 مليون شخص ووجود 30 مليون شخص في حالة حاجة ماسة. ويقول أفراد الجالية بمرارة "المجتمع الدولي نسي السودان".
النجاة في اليونان
لا يزال السيد جافريليديس يتألم عند المشي لمسافات طويلة. كان واحدًا من اليونانيين الذين أصيبوا بجروح خطيرة عندما اندلعت الأعمال العدائية في أبريل 2023.
يروي "كان اليوم، يوم (سبت النور) قبل عيد الفصح. كان هناك قداس، وذهبت لشراء لحم الخروف لأخذه إلى الجالية في الكنيسة. رأيت الدبابات فاستدرت وعدت أدراجي. بدأت أسمع أصوات الانفجارات". سقطت قنبلة على بعد أمتار قليلة من منزل صديقه الذي لجأ إليه.
يقول "سقطت كل أسناني وانكسر ساقي. ظننت أنني سأموت. بقيت على هذه الحال تسعة أيام دون علاج. المستشفى كان تحت سيطرة قوات الدعم السريع التي كانت تجلب قتلاها في أكياس. لم يقدموا لي حتى إبرة مسكن. بقيت في الكنيسة. كانت لدي خمس فتحات في بطني، فقام طبيب بربطها بملاءة".
بعد الأيام الأولى من الرعب، نُقل إلى اليونان للعلاج. بقي في غيبوبة لمدة 25 يوماً وخضع لسبع عمليات جراحية مؤلمة لإنقاذه.
في البداية، كان يعتقد أن الحرب ستنتهي سريعاً وسيعود إلى منزله. لكنه اكتشف أن ذلك "كان حلماً بعيد المنال".
في الخرطوم، كان بانايوتي جافريليديس يمتلك أربعة متاجر (يسمونها هناك مقاهي) تبيع الشاورما، بالإضافة إلى محل لبيع القهوة المطحونة. لقد اكتسب شهرة لدرجة أن كل متجر من متاجره كان يبيع 1000 سندوتش يوميًا.
يقول بفخر مشوب بالحسرة "كان نصف السودان يعرفني. كانوا ينادونني "خواجة"، أي أوروبي. حتى البشير (ملاحظة المحرر: رئيس البلاد الذي استولى على السلطة بانقلاب وأطيح به في عام 2019) كان يشتري مني. كانت سكرتيرته تتصل بنا ونرسل الشاورما إلى القصر". كان يبدأ يومه مبكرًا بالعمل وينتهي في المساء في النادي اليوناني للعب البرامبا (لعبة كوتشينا) والدومينو. كان لديه منزل داخل الجالية اليونانية وآخر كبير بحديقة في الضواحي.
اليوم، دُمّر كل شيء تقريباً، وكثير من زملائه قُتلوا. انتقل من حياة مرفهة إلى العيش في كابينة مساحتها 35 متراً مربعاً، ويعمل حالياً موظفاً بسيطاً.
يقول بنايوتي "في السودان، عندما كانوا يسألونني، كنت أقول إنني سوداني. أحب اليونان، لكنني سوداني". تدمع عيناه الزرقاوان عندما يفكر في اللحظة التي سيعود فيها. يشدد على أن اليونان رائعة، ولن يحرم أطفاله، الذين التحقوا بالمدرسة، من العيش في بلد أوروبي. "لكنني أريد أن أعود عندما ينتهي كل شيء، ولو لفترة قصيرة، فقط لأقبل ترابها".
بانايوتيس غافرييليديس، في ميناء رافينا، المنطقة التي يعيش فيها بعد تهجيره. صحيفة كاثيميريني.
في فندق "أكروبول"
نفس التأثر بدا على جيراسيموس باغولاتوس، القنصل الفخري لليونان في السودان، وأحد مالكي فندق “أكروبول” التاريخي. فما زال غير قادر على استيعاب أنهم غادروا هاربين قبل عامين ونصف.
يقول "لم نتخيل يوماً أننا سنغادر بهذه الطريقة، وأن ما يحدث في السودان سيحدث فعلاً".
عاش الرجل البالغ من العمر 69 عامًا العصر الذهبي للخرطوم والجالية اليونانية. ولد في العاصمة بعد أربع سنوات من قرار والديه تأسيس فندق "أكروبول" في وسط المدينة. وقد جعلته الأطعمة اليونانية الجيدة وكرم الضيافة مطلوبًا بشدة. أقام فيه صحفيون مشهورون، ودبلوماسيون، ووزراء، وعلماء آثار، استمتعوا بالجو الدافئ والأطباق الطازجة من الباستيتشيو واليخنة. كانت حياته وحياة شقيقيه مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعملهما، حسب قوله.
لكنها كانت حياة أشبه بفيلم سينمائي. نزهات بالقارب في النيل، موائد مع مذيعين معروفين من هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) وشبكة (سي إن إن)، ولقاءات الجالية في النادي اليوناني. تتجاوز الذكريات الطيبة حتى يومنا هذا أي صعوبات، سواء كانت اضطرابات سياسية أو أزمات اقتصادية. "كانت هناك أيام لم يكن لدينا فيها كهرباء ولا وقود لتشغيل المولد. كان لدى الجميع مولدات. تخيلوا ذلك في بلد تبلغ درجة حرارته 45 درجة مئوية دون حتى مروحة".
كان هو نفسه عضوًا نشطًا في الجالية اليونانية التي كانت لا تزال قوية وكبيرة العدد في شبابه. في السبعينيات، كان عدد أفراد الجالية حوالي 3000 شخص، كان العديد منهم من الصناعيين. كانت المطرانية والمدرسة اليونانية تقع في الخرطوم. كانت مباني الجالية اليونانية تكتظ في عطلات نهاية الأسبوع بالأطفال الذين يمارسون الرياضة، وكانت تُقام حفلات كبيرة غالبًا بجوار حوض السباحة الذي كان جزءا من النادي.
يتذكر السيد باغولاتوس "في الأوقات الجيدة، قبل الثمانينيات، كانوا يهتمون بإحضار فرقة موسيقية من اليونان لمدة عشرين يومًا، أي قبل عيد الميلاد بقليل وحتى عيد الغطاس، حيث كان الناس يستمتعون". بدأت الجالية تتدهور تدريجيًا بعد إعلان البلاد دولة اسلامية عام 1981، مما أدى إلى فرض قيود على الترفيه والكحول. بدأت دور السينما والملاهي الليلية ومحلات بيع الخمور، وبعضها كان مملوكًا لليونانيين، تتلاشى تدريجياً، وبدأ اليونانيون يغادرون البلاد.
الآن، كما يصف، لم يبقَ شيء يذكر بالماضي. فقد دُمرت ونهبت مباني المطرانية والجالية اليونانية. وكذلك الفندق. تمكن صديق صحفي جيد من إرسال صور له لفندق "أكروبول"، الذي يقف مدمرًا في أحد أكثر الشوارع المركزية في العاصمة. الأبواب مكسورة، والأسرة محطمة، وسُرقت جميع الأشياء الثمينة من الغرف. لم يتمكنوا من أخذ أي شيء معهم عند المغادرة.
أولئك الذين بقوا
يعيش حاليًا في السودان اثنان فقط من اليونانيين. يقول كونستاندينوس (قسطنطين) ماكريس لـ "كاثمريني"، وهو صاحب مصنع كبير في البلاد ورثه عن والده "سأكون أنا الثالث". التقينا به في منزله في أثينا. وُلِد ونشأ في الخرطوم، وأرسله والداه وشقيقته إلى مدارس خاصة في اليونان في سن 12 عامًا للحصول على تعليم أفضل. ومنذ ذلك الحين وحتى عام 2018، زار البلاد مرات قليلة جدًا. ولكن عندما مرض والده، عاد إلى الخرطوم ليرعاه ويتولى إدارة الأعمال العائلية التي أسسها جده عام 1956.
بمجرد أن بدأ يستعيد توازنه، ويعيد التواصل مع زملائه القدامى ويُكون صداقات جديدة، اندلعت الحرب. لا تزال على هاتفه المحمول صورة للثقب الذي أحدثته رصاصة في الجدار فوق رأسه. في الفترة الأولى بعد هروبه، كان يفزع من أي صوت عالٍ، وحتى اليوم يجد صعوبة في التعامل نفسيًا مع ما حدث. عندما يتلقى صورًا ومقاطع فيديو للمعارك وأعمال الانتقام هناك، يشاهدها ويمسحها على الفور. يقول ماكريس "أفقد النوم. لا أحتمل. لقد أحببت السودان. كلنا أحببناه".
تواصل السيد ماكريس بالفعل مع بعض الموظفين والشركاء وينقل الآن جزءًا من مصنعه إلى مدينة تبعد بضع ساعات عن الخرطوم. ويقول "يجب أن أبدأ من الصفر مرة أخرى. إنه الطريق الوحيد. سأترك أمي فقط في اليونان".
قبل ان يغادرنا، يلتقي ببارِس باجيس، نائب رئيس اتحاد اليونانيين من السودان. وعلى الرغم من انه باجيس غادر السودان في سن 18، الا انه لا يزال مرتبطًا عاطفيًا بالبلاد، ومن خلال منصبه، يربط اليونانيين الذين كانوا يوما جزءا من الجالية اليونانية في السودان. ويقول "في 27 ديسمبر، بغض النظر عن البلد الذي نعيش فيه، يتجمع يونانيو السودان من جيلي، الذين تتراوح أعمارهم بين 45 و 55 عامًا، ونتناول الطعام معًا. بدون زوجاتنا أو أطفالنا، فقط الأشخاص الذين عاشوا هناك. إنه قانون غير مكتوب".
صحيفة "كاثيميريني"
أليكسيا كالايتزي
18 نوفمبر 2025


