تم التحديث: ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٥ 15:34:13

مؤسسة رافتو
غرف الطوارئ السودانية… تجسيدٌ حيّ لدولة المواطنة المنشودة
كشفت حرب 15 أبريل في السودان، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، عن حجم العدوان الواسع الذي تعرّض له المدنيون منذ اليوم الأول. فقد استُهدفت المؤسسات الخدمية المدنية والنظام الصحي بصورة منهجية، ووصلت رصاصات القتال إلى بيوت المواطنين، تاركة البلاد في حالة شلل كامل.
يروي الناشط الاجتماعي منذر مصطفى تفاصيل اللحظات الأولى للحرب حين وجد نفسه مع أسرته محاصراً في شرق الخرطوم، دون غذاء أو دواء أو وسيلة للخروج. "عندما اندلعت الحرب صباح 15 أبريل 2023، كنت مع أسرتي في شرق الخرطوم، محاصرين بلا قدرة على تلبية متطلبات الحياة اليومية. كان كل شيء قد توقف. وبعد أيام، اتصل بي أحد الفاعلين في لجان المقاومة بالحاج يوسف، وأخبرني أن رجلاً مسناً انتحر بعدما ضاقت به الهموم وترك زوجته وطفليه بلا معيل. جيرانه أبلغوا لجان المقاومة، فهي الجهة الوحيدة التي يراها الناس موجودة، فالشرطة غائبة والدولة منهارة، وكان عليهم التحرك فوراً".
ظل سؤال "ماذا نفعل؟" يطارد منذر في واحد من أصعب الظروف الإنسانية، لكنه أدرك حينها أن المجتمع لم يعد يثق إلا بقادته المحليين. كان واضحاً بالنسبة له أن هذه الحرب تستهدف المجتمعات المحلية بالدرجة الأولى، وأن العسكر لن يكترثوا لأوجاع الناس.
يضيف مصطفى "منذ تلك اللحظة، انخرطنا في نشاط إنساني عرف لاحقاً باسم غرف الطوارئ؛ هدفه استعادة الحد الأدنى من الخدمات الأساسية تحت وابل الرصاص".
ويقول إن الخوف الأكبر كان يتعلق بكيفية المحافظة على استمرار العمل في ظل صعوبة الحصول على المدخرات الشخصية، لكنهم وجدوا الإجابة سريعاً "كل شيء يهون في سبيل إنقاذ الأرواح".
انخرط الشباب من الجنسين في مهمة مستحيلة. تعبئة الموارد في ظروف لا تسمح بشيء. ورغم ضآلة الإمكانيات مقارنة بحجم المخاطر في الميدان، كانوا يتحركون كما لو أنهم ملائكة. وبعد محاولات عديدة حصلوا بشِق الأنفس على جزء من مدخراتهم وبدأوا بها العمل، لتصلهم لاحقاً مساهمات من محبي الإنسانية داخل وخارج السودان، إضافة إلى مستجيبين دوليين.
وانطلقت أول استجابة إنسانية بعد أيام فقط من اندلاع الحرب، وتم خلالها توزيع أكثر من 20 طناً من المساعدات الطبية والغذائية.
ويقول معز الزين، المدير السابق لمركز الأيام للدراسات الثقافية والتنمية، إن البلاد بأكملها شهدت حراكاً واسعاً للمستجيبين الإنسانيين من الخطوط الأمامية دفاعاً عن حقوق السودانيين. ويؤكد الزين أن غرف الطوارئ خرجت من رحم تشكيلات ثورة ديسمبر الاجتماعية، لجان المقاومة، لجان التغيير والخدمات، وغرف النساء، لتصبح البديل العملي في ظل غياب الدولة وتأخر المنظمات الدولية.
وقد استفادت هذه الغرف من الثورة الرقمية لإطلاق منصاتها في أنحاء البلاد، واستخدام التطبيقات البنكية لتنظيم نفير لامركزي واسع، أظهر حجم التضامن بين السودانيين. ويرى الزين أن مستقبل دولة المواطنة والتضامن المدني والاقتصاد التشاركي يتجسد في روح غرف الطوارئ السودانية.
هذه الروح دفعت المؤسسات الدولية والمحلية، خصوصاً تلك المعنية بالقيم الإنسانية، إلى تكريم غرف الطوارئ والتنافس في الاحتفاء بإنجازاتها التي تؤكد أن التضامن بين أبناء الشعب، ومع الشعوب الأخرى، هو الطريق نحو تجاوز المحن والعبور إلى الازدهار.
فهذا الاعتراف يشكّل في جوهره صكّ إنسانية لهذه المؤسسات الشعبية، ويؤكد مشروعيتها النابعة من المجتمع وإليه.
ويقول مصطفى مخاطباً القائمين على الجوائز العالمية (جائزة رافتو لحقوق الإنسان، جائزة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان، جائزة الديمقراطية – الصندوق الوطني للديمقراطية، جائزة ريتشارد سي. هولبروك للمناصرة الدولية، وسام الشجاعة من الدرجة الأولى – برلمان الشباب):
"تشبه قيمكم قادة التغيير الاجتماعي ـ لجان المقاومة ـ الذين دافعوا عن حقوق المواطنة المتساوية في مواجهة النظام الوحشي الذي أشعل الحرب. وتشبه إنسانيتكم المستجيبين للأزمة الإنسانية الأكبر في التاريخ الحديث ـ غرف الطوارئ ـ الذين أعادوا الأمل لشعبٍ محبٍ للسلام".
ويؤكد الزين أن غرف الطوارئ السودانية "شرط إنساني فرضته الحرب، وامتداد طبيعي للثورة الاجتماعية"، وأن قدرتها على العمل وسط المجتمعات منحتها شرعية اجتماعية معترفاً بها إقليمياً ودولياً. وهي، بحسب قوله، مستقبل العمل الاجتماعي وتأسيس التنمية الشاملة.
وتشير تقارير دولية إلى أن غرف الطوارئ، المنبثقة من لجان المقاومة التي قادت ثورة 2019، لعبت دوراً محورياً في الجهود الإنسانية منذ اندلاع الحرب الحالية. وبحلول فبراير 2024، كانت قد قدمت المساعدة لأكثر من أربعة ملايين شخص.
فقد أسهم المتطوعون في إجلاء عشرات الآلاف من مناطق النزاعات، وتوفير المياه النظيفة والإمدادات الطبية، وتأمين الوقود للمستشفيات القليلة التي ما تزال تعمل. كما حافظوا على البنية التحتية للمياه والاتصالات، وأداروا مطابخ مجتمعية تغطي احتياجات ملايين المواطنين، إضافة إلى الاستجابة لحالات العنف الجنسي في الحرب.
وعلاوة على الجوائز العالمية المرموقة، نالت غرف الطوارئ إشادات واسعة من قادة ومنظمات دولية. ففي بيان صادر عن مكتب الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بتاريخ 12 أبريل 2024، جاء "يشيد الاتحاد الأوروبي بشجاعة والتزام العاملين في المجال الإنساني المحليين والدوليين، ولا سيما المنظمات غير الحكومية المحلية وغرف الاستجابة للطوارئ".



