26/07/2023

محاولة لِسَودنَّة ادوارد غاليانو

الأصمعي باشري

تحيلك رواية رأساً على عقب.. مدرسة العالم بالمقلوب للارغواني ادوارد غاليانو، للواقع السوداني، ببساطة، وبأن لها زمناً غير ذاك الذي تكلمت عنه الكثير من الكتابات الواقعية، او ذاك الذي تحاول عمليات الترميم السياسي ان تحييه. زمن السودان الآني ،وهو زمن خالص أو محض، عصي على الخيال، وغائب عن البحث، والتفكير، والرؤية.

فمشهد الراهن الطافح بالصور، والأخيلة والتشكيلات، في واقعنا العنيف الذي لا يتسع وقت لتحليله، وكتابته، إنه ضائع ويسعى الخيال باستمرار إلى العثور عليه.

ليس هو زمن الحرب فحسب، ولا الموت المجاني، أو النزوح المُتعب، كلاّ، إنه زمن تأمل ما خلق كل هذا، وما أدى لما آلت عليه الآن الأمور من مأزق وجودي، ضربت تجربة المجتمع والشعوب، والرموز، والقادة. 

كان عُمُر حفيدتي كاتلينا عشر سنوات، وكنا نتمشى في أحد شوارع بونيس آيريس حين اقترب أحدهم وطلب مني توقيع أحد كتبي، لا أذكر أي كتاب منها .. وواصلنا المشي، كلانا صامت، ومتعانقَيْن، إلى أن حرّكَت كاتلينا رأسها وصاغت هذا التعليق المشجع: لا أعرف لماذا كل هذا الاهتمام بك، إذا كنت أنا لا أقرأك!، هكذا تحدث مرة ادوارد غاليانو.

لكن في السودان من كان يقرأه بمتعة متناهية، ويشعر بذواته تتحرك في مأساتها، وتندب حظها. يقرأه وكأنه احد الروائيين السودانيين، الذين يعرفون تاريخنا الحقيقي، ويستلهمون تجاربنا المريرة، ويصورون لنا الواقع كما هو، ونحن نطالع بمتعة متناهية رأسا على عقب وكانها مدرسة السودان المقلوب، المغلوب على أمره.

يكتب غاليانو في مقاطع من فصلٍ، بعنوان الشيطان جائع: (كثيرون شاركوا في الجريمة عن سابق علم ومعرفة، بالحماس الذي تستحقّه أنبلُ قضيّة، والاندفاع الذي يليق بأسمى هدف).

وأيضا، (قوانين الحصانة تبدو هي الأخرى مقصوصة بالمقص نفسه. فقد وصلت الديمقراطيات إلى هناك وكأنها مكلفة بمهمتين لا ثالثة لهما: تسديد الديون ونسيان جرائم الماضي. جاءت وكأنها ممتنة للعسكر: لأن الإرهاب الذي مارسوه خلق أجواء ملائمة للاستثمارات الأجنبية، وأفسح الطريق، في السنوات اللاحقة، لاستكمال بيع الأوطان بسعر الموز، من دون مسؤولية ولا مساءلة. تحت مظلة الديمقراطيّة، تخلّوا عن السيادة الوطنية، وأداروا ظهورهم لقوانين العمل، وفككوا الخدمات العمومية. تم كل شيء بسهولة نسبية، بعد أن أفُرغت المجتمعات من خيرة طاقاتها، بعد أن استعادت في الثمانينيات حقوقها المدنية، واعتادت العيش في أجواء الكذب والخوف وهي تعاني من الضعف، وتتطلّع إلى جرعة الأوكسجين الحيوية الخلاقة التي وعدت بها الديمقراطية ولم توف بها، عجزاً أو تعاجزاً).

تحدثت الكاتبة المعروفة إيزابيل أليندي، والتي قالت إن نسختها من كتاب غاليانو كانت واحدة من اغراض قليلة هربت بها من تشيلي في عام 1973 بعد الانقلاب العسكري؛ الذي قام به أوغستو بينوشيه، عن كتاب الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية واصفة إياه بأنه «مزيج من التفاصيل التي تتحرى الدقة والعقيدةِ السياسية والنزعة الشعرية والسرد القصصي الجيد».

ومن مقاطع ذات الفصل، نقرأ (رأت الحكومات المنتخبة ديمقراطياً في تطبيق العدالة انتقاماً، وفي الحفاظ على الذاكرة دعوة للفوضى، فألقت بالماء المبارك على جباه الرجال الذين مارسوا إرهاب الدولة. فباسم استقرار الديمقراطية، وتحت شعار المصالحة الوطنية، سنت قوانين الحصانة التي نفت العدالة ودفنت الماضي وحثت على فقدان الذاكرة وتناسي الماضي.).

ويرى الروائي السوداني منصور الصويم بأن أقرب ما يخطر لك وانت تقرأه، ذلك الربط، أو المزج الذكي، والغريب، الذي يحدثه في قراءة التاريخ.

وبشير الصويم الي أن تفسير الحاضر في غياهب الماضي، صنعة غاليانو الماهر، واستدعاء التاريخ لتفكيك الحاضر، له قدرته الخاصة، ويضيف السخرية المريرة من الغباء البشري المتمثل في التكرار الاستنساخي الملهاوي أو المهزلة. فكأنما نحن الآن في خضم هذا العبث نقرأ في احد متون غاليانو الساحرة والساخرة والصادمة حد المرارة، والحديث مازال للصوبم درس غاليانو الأساسي هو الانتباه أو التنبيه من الغفلة، والغفلة هي نحن أو ما نحصده الآن.

أمّا الناقد والكاتب السوداني؛ احمد صادق والذي ترجم مقال ألليندي حول غاليانو يقول عنه بأن الرجل بكامل تاريخه الإنساني، ورؤيته الإبداعية ينتمي لواقعنا، ويضيف رجل  كتب بأفق الدفاع عن المجتمع، ونقد عنف الدولة؛ خاصةً المسيطرة عليها بواسطة العسكريين ويختم الصادق بأن  ثلاثيته المعروفة عن النار، و كتابه عن كرة القدم بمثابة ذاكرة سودانية بامتياز.

كان ادوارد غاليانو ،صحفيًا وكاتبًا وروائيًا أوروغوايانيًا، اعتُبر ـ من بين أشياء أخرى ـ «رجل الحروف البارز في مجال كرة القدم العالمية» و«عملاقَ أدبٍ فيمن تبقى من الأمريكان اللاتينيين».

أشهر أعمال غاليانو هي «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية»وثلاثية «ذاكرة النار» وغيرها.

قال غاليانو ذات مرة متحدثًا عن نفسه «أنا كاتب مهووس بالتذكر، بتذكر ماضي أمريكا، وقبل كل شيء ماضي أمريكا اللاتينية، الأرض الحميمة ذات الخصوصية والتي حُكم عليها بفقدان الذاكرة». يا للهول، هل قال بفقدان الذاكرة حقا؟

معرض الصور