01/08/2023

فيلم الخرطوم الذي لم أكتبه وكتبته الحرب

يوسف حمد

في شهر فبراير الماضي، كنت قد التزمت لقناة تلفزيونية أجنبية بكتابة قصة صحفية تتبع نشأة العاصمة الخرطوم وترصد ما أمكن التغييرات التي طرأت عليها وساعدت على تكوين الهوية الخاصة لمدنها: أم درمان، بحري، الخرطوم.

كان ذلك قبل بدء الجنرالين (الأصدقاء الأعداء) حربهم العبثية في منتصف شهر أبريل. وهي حرب عبيثة بتوصيف قائد الجيش نفسه، كان مسرحها العاصمة الخرطوم نفسها التي بنيت قبل نحو 200 سنة عند ملتقى النيلين. وقد بنيت من أنقاض مدينة (سوبا)، العاصمة الممحوة لمملكة علوة المسيحية.

في تلك الأيام من شهر فبراير وما قبله، لم تكن الخرطوم مدينة جميلة وقد تعطلت فيها الخدمة المدنية العامة إلى حدود بعيدة، وكذلك، لم تكن آمنة بالمستوى الذي تتطلبه حياة المدن والعواصم.

كان أبطال المدينة هم أفراد العصابات التي صُنعت خصيصا لإبطاء مواكب الثورة السلمية، وقد أخذت المواكب على عاتقها إسقاط انقلاب الجيش والدعم السريع واستعادة الديمقراطية المغدورة المتعثرة بتدبيرات الجنرالين، عبد الفتاح الرهان ومحمد حمدان حميدتي وبمباركة حركات الكفاح المسلح.

كانت القناة التلفزيونية الأجنبية ترغب في تصوير قصة الخرطوم لصالح فيلم وثائقي تقدمه على شاشتها، ربما ضمن موجة الأفلام الوثائقية التي اجتاحت عالم القنوات التلفزيونية في السنوات الأخيرة الماضية، وربما أغراها الصيت الكبير الذي حصلت عليه الخرطوم من كونها شهدت ثلاث ثورات سلمية في تاريخها، كان آخرها الثورة التي اندلعت في ديسمبر 2018.

بالفعل، جمعت الوثائق والكتب والمخطوطات المطلوبة التي تعينني على هذه المهمة الخطرة الممتعة، وشرعت في كتابة القصة بالكلمات، وحددت الضيف المناسب من كل مدينة، واخترت بحذر شديد أماكن التصوير على الشوارع والأحياء القديمة جدا، وكذلك الحديثة والأكثر حداثة.

في تلك الأيام، تقاعست الشرطة عن فعل أي شيء لصالح حفظ الأمن، وصدمت الناس بتكرار سلوكيات غير مهنية، أبعدتها عن كونها شرطة يمكن التعويل عليها، وكذلك أعاد الانقلاب إلى جهاز الأمن سلطاته القديمة الموروثة من نظام الإخوان المسلمين، متمثلة حق الاعتقال والاستجواب.

وسريعا عمل الجهازان، الشرطة والأمن، بتناغم لقمع المواكب السلمية بتشف وإخلاص ظاهرين. وإزاء ذلك، وعلى سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على شرطة الاحتياطي المركزي لقمعها المفرط للثور وانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان.

ببلوغ شهر أبريل كانت الحصيلة أكثر من 150 قتيلا 500 وجريح، وثقهم رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم الانقال الديمقراطي في السودان، فولكر بريتس، في تقريره الرسمي المقدم إلى جلسة مجلس الأمن.

كانت المدينة بعامة في جو من الابتزاز الأمني والعسكري؛ فإلى جانب الشرطة والجيش وقوات الدعم السريع، كانت هناك الحركات المسلحة التي أظهرت نزعة سلطوية واحتلت جيوبا من العاصمة في أعقاب التوقيع على اتفاقية سلام مع الحكومة (أكتوبر 2020)، وقد هددت هي الأخرى بالرجوع إلى الحرب، لتبدأ هذه المرة من الخرطوم، وليست من دارفور وأطراف البلاد كما بدأت في أول أمرها.

قبل هذا التهديد المتكرر كانت الحركات المسلحة قد أحبطت الثوار والقوى السياسية المدنية بانحيازها لانقلاب (25 أكتوبر)، رغم الشواهد الجمة التي تشير إلى أن الانقلاب تم لصالح خصم الحركات المسلحة التاريخي: الجبهة الإسلامية القومية وعناصر حكومة الإنقاذ.

وفي ظلال هذا الجو من الانفلات الأمني والابتزاز كان علينا الاستعداد لنشرع في إنتاج الفيلم، وكنت انتظر الإشارة لذلك مع الوضع في الاعتبار أن نعمل بحذر كي يتجنب الضيوف الاحتكاك بسلطة الانقلاب المتحفظة على تصوير الأماكن العامة.

إلى جانب الأماكن المختارة للتصوير، كان من بين الضيوف مختصين ومختصات في المتاحف والأرشفة الرسمية لذكريات هذه المدنية العملاقة. أما ضيوفي الأصلاء فقد كانوا من المواطنين الذين ولدوا وعاشوا حياتهم في هذا المكان المحترق بفعل الحرب.

لن يتمكن فيلم وثائقي محدود الساعات أن يروى تاريخ الخرطوم بشكل كاف، بيد أن التوثيق الجاد لا يتجاوز أبدا التذكير بأن الخرطوم عامة بنيت في حقب تاريخية مختلفة، تشترك جميعها في أنها بنيت من خيال الحرب والاقتتال والنزاعات والخوف.

فمنذ نشأتها في عشرينيات القرن الثامن عشر عمد مؤسسها، خورشيد باشا، على بنائها بالقرب من مجرى النهر وملتقى النيلين حتى يتمكن من الإبحار سريعا متى ما دعت الضرورة للمغادرة، وقد تبعه المديرون من بعده بحشد البواخر المناسبة لذلك، وحصنوا المدينة بسور طويل متعرج يحرسه الجنود، هو امتداد شارع الجيش الحالي، ليفصل بين سكن ودوواين قادة الدولة، وبين عموم السكان.

وحين شبت الثورة المهدية لم تكن البواخر ولا التحصينات كافية لحماية المدينة، لقد انهارت وقتل فيها من قتل بسيوف المهدويين، بمن فيهم الجنرال غردون باشا. وعبر فتوى دينية نافذة سرعان ما عاف الخليفة المهدوي عبد الله التعايشي المدينة التي بناها الأتراك، وحرّم السكنى فيها ووصفها بأنها (مدينة نجسة)، ثم مضى التعايشي ليؤسس مع محمد أحمد المهدي مدينة أم درمان باعتبارها (مدينة طاهرة).

وبغض النطر عن طهارة أم درمان، إلا أنها بُنيت هي الأخرى في ظلال احتمالات الفرار برا إلى غرب البلاد في حال تحرك الإنجليز للثأر لمقتل الرجل المهم غردون. وفي نهاية الأمر، صدقت توقعات قادة المهدية بوقوع (معركة كرري) وانسحاب التعايشي إلى جنوب غرب البلاد ليموت هناك في (أم دبيكرات).

وفي كل الأحوال، توزعت الأحياء السكنية طبقيا، قربا وابتعادا بما يحاكي الموقف من الدولة ومن سياساتها. وفي نهاية الأمر، تركت مساحة للفيلم المقترح أن يكتشف هذه المخابئ والعلاقات الاجتماعية التي تشكلت بموجب ذلك.

للخرطوم تاريخ طويل مع أعمال العنف والحروبات. فقد تعرضت في تاريخها لمجازر متعددة وصل فيها عدد القتلى إلى الآلاف. ففي فترة ما بعد الاستقلال، ١٩٥٦، عاشت في أمن وعُدت واحدة من أكثر العواصم العربية والأفريقية طمأنينة. لكن بنهاية العام ١٩٦٤ سالت فيها الدماء، وذلك في أعقاب إشاعة موت وزير الداخليةوقتها، كلمنت أمبورو.

بعد ذلك بست سنوات، مارس ١٩٧٠، كانت على موعد مع مجزرة تجسد عنف الدولة بمعنى الكلمة، قادها الجنرال جعفر نميري، وعرفت بأحداث ود نوباوي. وفيها قصف نظام جعفر نميري مسجد الأنصار الذين عارضوه مخلفا مئات الضحايا. وربما يشبه ذلك ما يحدث الآن من قصف.

بعد مجئ نظام الإخوان المسلمين في ١٩٨٩، جددت الخرطوم ذكرياتها مع العنف. فإلى جانب عنف الاعتقالات والتعذيب والإخفاء القسري، عاشت رعب إعدام ٢٨ ضابطا على يد عمر البشير، .وكذلك اجتاحتها حركة العدل والمساواة في مايو ٢٠٠٨ في غزوة كبيرة أفقدتها الأمن لعدة أسابيع.

وفي سبتمبر ٢٠١٣ شهدت هبة كبرى ضد نظام عمر البشير، لكن النظام واجهها بعنف راح ضحيته نحو ٢١٠ قتيلا من المتظاهرين السلميين.

وانتهى الأمر، بعد سنوات، إلى احتجاجات جديدة انتهت بسقوط نظام البشير في ١١ أبريل ٢٠١٩، لكن بحصيلة تفوق المائة قتيل.

بعد تسلم المجلس العسكري بقيادة عبد الفتاح البرهان، زمام السلطة من نظام البشير، حصدت الآلة العسكرية في عملية فض اعتصام محيط قيادة الجيش، في الثالث من يونيو ٢٠١٩ ما بين ١٥٠ إلى ٥٠٠ شخص من بينهم قتلى مفقودين.

وبعد انقلاب قائد الجيش وقائد قوات الدعم السريع في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ سقط ما يقارب ١٥٠ قتيلا خلال التظاهرات المناهضة للانقلاب، ليندلع أخيرا العنف الأكبر في ١٥ أبريل.

لقد كان ضيوفي للفيلم شهودا على كل هذا، وعلى تاريخ المدينة، وغالب الظن أن مجموع هذه الأحداث هو الذي شكل وعيهم.

الآن علي أن أواجه مشاعر مؤلمة وأنا أتصور مقدار الألم الذي يضمخ حياة الناجين من أولئك الضيوف المختارين لبطولة الفيلم. لقد انقطعت بيننا الاتصالات ولم أعد أعرف أين هم الآن، ولا في أي عالم.. وكذلك، لا أعرف مدى الخراب الذي حل بالمدينة التي لم أغادرها منذ ثلاثين إلا بسبب هذه الحرب العبثية، وكنت أتمنى لو أحكي حكايتها في فيلم.. لكن الحرب تكفلت بكتابة الفيلم وعلى طريقتها!

معرض الصور