05/08/2023

قبل الحرب.. كيف طغى خطاب القبيلة؟


الأصمعي باشري

تابعت بحسرة شديدة؛ الخطابات المتداولة في المشهد السياسي السوداني قبل الحرب بزمن قليل، والتي أثرت على الواقع السياسي والاجتماعي السوداني تاثيرات عميقة.

وفي وقت وجيز، تكونت على اثرها ثقافة مُتحيّزة بحكم انغلاقها وافرزت واقعا متخلفا ومتسلطا استشرى في جميع مؤسسات الدولة.

بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر العام 2021, وفي الوقت الذي تغض فيه سلطة الانقلاب الطرف عن أحداث محلية “ود الماحي” بالنيل الأزرق، وأحداث مدينة “لقاوة” بجنوب كردفان، التي وصفتها تقارير حقوقية بعمليات التهجير القسري، والقتل الممنهج.

في الأثناء زدادت حدة الخطاب القبلي داخل المشهدالسياسي بشكل مباشر، واصلت فيه الإدارات الأهلية تهديدها ووعيدها برسم الخطوط الحمراء، دفاعا عن منسوبيها داخل السلطة الانقلابية.

وفي غضون ذلك، لم يمض أسبوع على التهديدات التي أطلقها ناظر قبيلة الرزيقات في مواجهة كل من يحاول النيل من قائد قوات الدعم السريع، وشريك سلطة الانقلاب دقلو حتى خرج مجلس عموم النوبة في مؤتمر صحفي بـ طيبة برس، في الثامن عشر من شهر أكتوبر 2022 مهدداً كل من تُسّول له نفسه النيل من عضو مجلس السيادة حينها الفريق كباشي. وقبلهما تصريحات ناظر البجا ترك، لحماية عودة آخر رئيس وزراء في النظام المباد، محمد طاهر ايلا. بالإضافة لجولات زعيم الانقلاب في حزام حاصنته الاجتماعية بولاية نهر النيل. الأمر الذي أشار بوضوح الي أن قادة الانقلاب في السودان، لجأوا منذ أيامهم الأولى لتأجيج حمى القبيلة والجهة، كحاضنة لانقلابهم المشؤوم، ومهدوا الطريق أمام صعود نبرتها، وعلو خطابها السياسي، بحسب خطاباتهم، مما أدى لعودة الاقتتال القبلي من جديد وتصاعد خطاب العنصرية القبيح، في محاولة لقطع طريق الإصلاح في قضايا السلام والعدالة الذي ابتدرته ثورة ديسمبر المجيدة.‬‬

قال الكاتب والباحث السياسي الدكتور الشفيع خضر، في مقال له منذ يوليو المنصرم، نشرته صحيفة (القدس العربي) اللندنية، حول الأزمة السياسية في السودان، مطالبا وبشكل عاجل، أن تتربع على قمة أولويات أجندة وأنشطة الحركة السياسية والمدنية ولجان المقاومة، مهمة مصيرية ذات شقين يرتبطان جدليا ببعضهما البعض.

وبحسب المقال فإن الشق الأول يتمثل في بذل أقصى جهد ممكن لتخطي حالة التشرذم والانقسام بين أطراف وفصائل هذه القوى، والعمل على توحدها وفق صيغة جديدة للعمل الجبهوي المشترك. وأيضا العمل على تنقية الأجواء واستعادة المسار الصحي للعلاقة بين القوى السياسية والمدنية ولجان المقاومة من جهة، والحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا من جهة أخرى.

وأن تتوافق كل هذه القوى على تدابير وإجراءات دستورية جديدة يتم بموجبها تعديل الوثيقة الدستورية الحالية، أو اقتراح وثيقة دستورية جديدة، تحكم مسألة تشكيل آلية متوافق عليها لتشرع فورا وفي أسرع وقت ممكن في تكوين أجهزة الحكم الانتقالي، السيادية والتنفيذية، من كفاءات مدنية غير حزبية، وتكوين المجلس التشريعي الانتقالي، وإعادة تشكيل الهيئات العدلية، والمفوضيات القومية المستقلة، ومجلس الأمن القومي. مع التحديد الدقيق لمهام وصلاحيات كل هذه الأجهزة والهيئات، بما في ذلك مهام وصلاحيات المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

أما الشق الثاني يتمظهر بحسب مقال خضر في هذه المهمة المصيرية فهو الوعي والقناعة بأن الاقتتال وسفك الدماء بين القبائل والإثنيات في مناطق وولايات السودان المختلفة، لا يُسأل عنه القادة المحليين وزعماء القبائل في تلك المناطق والولايات، وإنما يُسأل عنه الحكام والنخب السياسية في الخرطوم. وأنه لا بد من تحويل هذا الوعي وهذه القناعة إلى فعل ملموس يبذل أقصى جهد ممكن لإخراس الخطاب، الذي ينفث عنصرية، ولو مغلفة، والسائد عند العديد من قيادات البلد وقيادات النخب، ويعمل على هزيمة الممارسات الخاطئة الموروثة من سياسات وممارسات النظام البائد ولا تزال تتبناها بعض القيادات اليوم، والتي تتمثل في الاستقواء بهذه القبيلة أو تلك، وإتباع أسلوب الإرضاءات السياسية مع الزعامات والبيوتات والرموز القبلية، وعبر تشطير الولايات والكيانات الإدارية الواحدة لإنشاء ولايات وإدارات أهلية جديدة، إرضاءً لقبائل وجهويات وإثنيات محددة، وعبر توزيع السلاح على هذه القبائل حتى تدعمها في مقاتلة معارضيها.

كانت الثلاثة عقود المنصرمة من حكم الإسلاميين، قد فككت بنية الإدارة الأهلية، وزرعت جيوباً منها بقوة السلاح، والمال في اتون الصراعات السياسية لحماية نظام الجبهة الإسلامية. فإن دور الإدارة الأهلية كان يقوم قبل الإنقاذ على تقاليد وأعراف تتسم بميزان تساوي الفرص في النشاط الاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي عدل من ميزان القوى فيما بينها. لكن استقواء البعض بنظام الإسلاميين، خلق واقعاً جديداً نحصد نتيجته الآن في الاقتتال، واقحام القبيلة في السياسة وحماية المجرمين.

إن غياب القوى المدنية في شرق السودان وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وتغاضيها عن ما يجري، شجع الانقلابين من الاستفادة من هذه الأوضاع الهشة في تهديد السلم والأمن الاجتماعين واللعب على أوتار الجهة والقبيلة، والعنصرية الصريحة لكسب المزيد من القوة في شقيها السياسي والاقتصادية. ومع طموح العسكر والمليشيات ازدات الأمور تعقيدا، وجعلت من الخطاب القبلي بديلا للسياسي المدني، ومن تفشي مرض العنصرية القاتل بديلا لحوار المجتمعات السودانية بعد الثورة، وتمجيد شعار الحرية والعدالة والسلام الاجتماعي.

معرض الصور