10/08/2023

حدة التسييس وظاهرة الكراهية القبلية

مريم أبشر

في الماضي، وعلى مر الحقب والعصور، هناك سمة ميزت المجتمع السوداني، وظل موسوما بها داخل وخارج السودان، هي الطيبة و التماسك القبلي والإثني، التلاحم ونجدة الملهوف.

هي صفات عرف بها (الزول) السوداني بالداخل، وبشكل خاص في الخارج ، حيث ظل التلاحم والتعاضد ميزة اشتهر بها السودانيون، وأصبحت محل إعجاب لدى الدول ووسط الشعوب التي يهاجر إليها السودانيون، وفي ذلك سطرت حكايات وقصص لنماذج مشرفة ومواقف محفورة في الذاكرة الجمعية.

غير أن ما اعتور هذا التماسك القبلي الفريد من أمراض، تسببت فيه التقاطعات السياسية المبنية على المصالح الآنية، (ظهر ذلك بصورة واضحة في الحرب التي تدور رحاها حاليا) وجعلت من التعصب والتمسك والمطالبات بنيل المكاسب، باسم القبيلة، لغما مفخخا، من شأنه، إن لم يتداركه العقلاء من أبناء الشعب السوداني، أن يؤدي إلى تفكيك السودان إلى دويلات هشة تنتاشها مطامع الدول.

بدأ واضحا للعيان ارتفاع حدة النبرة القبلية واتساع دائرة الكراهية القبلية، وبناء مواقف سياسية جرائها، الأمر الذي يستدعي اللحاق بما تبقى من تماسك في جدران الوطن المتصدع.

ضوابط تقليدية

يعرف عن المجتمع السوداني أنه مجتمع قبلي، ولكن على مر العصور ظل التعايش السلمي بين القبائل هو السائد، وقد كان مجتمعا متسامحا ومتماسكا إلى حد كبير بقبائله المختلفة، ولا توجد بينها فوارق.

وشكلت القيم والأعراف التقليدية أحد أهم الضوابط التقليدية، وأبرز القوانين التي تسير الأمور بين التجمعات والتكتلات القبلية، وأصبحت هي الضابط للإدارات الأهلية التي يقوم عليها الحكماء والعقلاء وكبار الأعيان في القبائل؛ حيث كانت لهذه الفئة الكلمة العليا وسط القبائل.

هذه السمة والميزة الاجتماعية في الشأن الاجتماعي استفاد منها المستعمر البريطاني في تنظيم المجتمع والتعامل مع القبائل بصورة كانت سلسلة ومنسابة.

َوبموجب هذه القيم، ظل المجتمع السوداني مستقر بفعل هذا الترابط القوي، ولعبت الإدارات الأهلية دور المؤسسة الاجتماعية الضابطة للمجتمع والمحافظة على استقراره.

حدة السياسة

يقول باحثون إن الذي اعترى هذه النظم التقليدية القبلية السلسة وأفسدها هو حدة التدخل السياسي، وذلك عبر تسيس القبائل والزج بها في أتون المعارك السياسية من أجل خدمة المصالح الخاصة.

هذه التدخلات أوجدت تأثيرات سلبية كبيرة على العلاقات الطبيعية التي كانت سمة مميزة بين القبائل، ولم يكن يكتنفها أي نوع من النزاعات إلا اليسير الذي يحدث من حين إلى آخر، وبشكل محدود، وسرعان ما تحتويه الإدارات الأهلية بحنكتها وبكلمتها الضابطة المسموعة بين القبائل.

الاستقطاب

يقول البروفسير عبده مختار، الباحث في الشأن السياسي والاجتماعي، إن تدخل السياسيين، وخاصة إبان حكومة الإنقاذ، في تسييس القبائل وتجيير الإدارة الأهلية، أثر عليها وعلى أدائها؛ حيث أصبح زعماء الإدارة الأهلية يتم تعيينهم على أساس موالاتهم للحزب الحاكم أو الحركة الإسلامية.كذلك أدى إلى استقطاب سياسي حاد على أساس إثنى وقبلي، ما قاد إلى إثارة النعرات القبلية والعنصرية.

هذا بدوره أوجد خطاب كراهية، ودفع إلى الاصطفاف على أساس عرقي وجهوي، وظهر ذلك عندما اندلعت حرب الجنرالين التي تدور رحاها الآن، وحصدت الكثير من الأنفس وشردت الملايين ولا تزال؛ فأصبح للحرب بعد عنصرى، عرقي، جهوي وقبلي.

خطر محدق

يرى مختار أن خطورة ذلك في أنه سيعمق من حدة الانقسام المجتمعي، مما يهدد استقرار الدولة ووحدتها، وربما سيادتها، وقد يدفع لتقسيمها إلى دويلات إن لم يتم تدارك الموقف.

فكرة متجذرة

على ذات النسق، وفي شبه تطابق في الآراء مقياسا لما كان سائدا في السابق، والحال الذي وصلت إليه البلاد حاليا من تشظ وارتفاع في وتيرة خطاب الكراهية والاستعلاء العرقي المصاحب للحرب الذي يشتعل أوارها الآن، هو أن النظام الاجتماعي في السودان ظل منذ زمن بعيد قائم على فكرة القبلية، وقد تعايشت المنظومة الرسمية مع هذه الفكرة، بل تفاعلت معها في فترات مختلفة. وقد تعايشت مع ذلك الأنظمة السياسية والأمنية لفترات طويلة.

لكن منذ نظام الرئيس المخلوع عمر البشير عمل النظام على تقنين هذه الأوضاع من خلال إنشاء منظومات جديدة للإدارة الأهلية واطلاق ألقاب على بعض قادتها، ومنح بعضهم امتيازات، وفقا لرؤية الدكتور رفعت ميرغنى عباس رئيس المفوضية القومية لحقوق الإنسان السابق

يقول ميرغني إن ما يؤسف له هو أن كثيرا من التدابير التي اتخذتها الدولة كانت ترسخ فكرة القبلية، ومن ذلك البرامج الإعلامية وغيرها من الأنشطة الرسمية.

وتابع بقوله: خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت نظام البشير تحركت بعض هذه المجموعات القبلية بشكل مخيف ومؤثر على حقوق الإنسان وعلى سيادة حكم القانون، بما في ذلك دخولها في معارك ضد بعضها البعض في دارفور وفي النيل الأزرق وفي كردفان، فضلا عن ظهور مجموعات عسكرية على خلفية قبلية، مثل درع الشمال وغيره من التحركات.

وزاد ميرغني: ما يؤسف له أنه كثيرا ما يقحم الخطاب القبلي في هذه الحرب المستمرة، وأن يتم تجييش القبائل للمشاركة في النزاع، ولفت إلى أن ما يبثه الإعلام الرسمي مما يسمى نفرات للقبائل، سيقود البلاد للحرب الشاملة. وأضاف: لا استطيع تفهم دولة محترمة تقوم بذلك، ولا أفهم كيف لا نعمل على اتخاذ تدابير لبناء هوية وطنية جامعة تذوب فيها الانتماءات القبلية والعرقية.

تغيير منهج

تجاوز هذه الأزمة، حسب رؤية رئيس مفوضية حقوق الإنسان، يتطلب أن تتبنى الدولة منهجا لتغيير أنماط التعليم وتغيير سياسات عديدة في الإعلام وفي الإدارة، فضلا عن الامتناع عن التعريف بالقبيلة فيش الأوراق الثبوتية، مثل الرقم الوطني وغيره.

ويرى مختصون أنه من المهم أيضا أن تتبنى الدولة في فترة ما بعد الحرب منهجا شاملا وجديا للعدالة الانتقالية ومعالجة جميع جراحات الماضي.

صرخة

واطلق مهتمون بمناهضة خطاب الكراهية والاستعلاء العرقي والقبلي دعوة للذين يحاولون استغلال القبائل في هذه الحرب أن يتوقفوا عن تجييش المدنيين على اساس قبلي، وأن يتوقفوا عن استخدام القبائل في الخطاب الإعلامي والسياسي المحرض على استمرار الصراع. وأن يسعى من يتصورون المشهد من أبناء الوطن العقلاء السعي الحثيث لوضع أسس وهياكل دولة القانون والعدالة التي يتساوى أمامها الجميع، غض النظر عن انتمائه العرقي أو القبلىي، وأن تكون الهوية السودانية هي المعيار الحاسم أمام القانون.

معرض الصور