16/08/2023

ما بين الغربة والحرب

د. فخرالدين عوض حسن عبدالعال

معظم السودانيين يخرجون من بلادهم مجبرين. ويكون كل حلمهم أن يعودوا إليها ويعيشوا فيها ويدفنوا فى ترابها.
لذلك نجد حتى الذين هاجروا إلى أوربا والأميريكتين، يقومون بشراء الأراضي وبناء البيوت فى السودان، وحلمهم الأكبر أن يعودوا إلى السودان.

بالنسبة لى شخصيا كانت الغربة عبارة عن رحلة بالقطار تتوقف فى محطات. وأجد مشقة فى الحمام وكل شئ. وحلمى هو الوصول الى محطتى التى اقصدها، وأحتضن الوالدين وإخوتى وجيرانى، واخد دش فى حمام بيتنا العتيق ولو كان بصابون غسيل أو فنيك حق شندى، واتسوك بمعجون ابوصفقة بعد عصره حتى (الزيت)، واصلّى فى برش ماهل أو مصلاية من جلد خروف آخر عيد أضحى. ومن ثم أتجه إلى عنقريب يتلاعب الهمبريب بملايته ....وأمى حينها تنادى على بركة: جيب مخدة من جوا لأخوك.

ويبدأ فاصل قهوة وبخور وونسة وبعدها شاى مغرب.

أمي تعطى مفتاح دولابها لراوية لتحضر علبة الخبيس لفخرالدين، ويضحكوا ويقولوا ليها لماذا فخرالدين. وهى ترد: انا امك يا فخرالدين.

وفى رمضان أقوم بقيادتهم لصلاة المغرب. واتذكر ابى وادعو له ودموعى تجرى وامي وإخوتى يدعون من خلفى، وأشم رائحته فى جميع أركان المنزل. هنا كان يصلى وهنا كان يقرأ مصحفه، وفى هذا السرير كان ينام. وعندما أزوره أجلس دوما معه فى نفس السرير، فقد تعودت أن أنام فى يده منذ طفولتى وأقرأ معه جريدة الصحافة والأيام. وعندما أصبحت رب أسرة لم يختلف الأمر، إذ أجلس مجاورا له وأميز رائحته، ويفرح بوجودى معه ويكره سفرى. ويتمنى يوم استقرارى بالوطن وهو يردد: شوف يا فخرالدين أنت بالنسبة لى أصغر من عمرو ولدك، أنت أيضا طفلى الصغير. وكان يرفض إن أخرج من المنزل بدون تناولى إفطاري.

فى القطار تحس بالقلق، وتريد ان تصل بيتك وتأخذ حمام طويل وتشرب من ماء الزير حتى ترتوى، لأن كل شئ فى البيت له مذاق مختلف جدا، لذلك فإن الغربة هى القطار أو اللوري أو الباخرة وسفرة طويلة ومرهقة جدا.

الحرب أجبرت أهلنا على ترك بيوتهم. وأصبحوا الآن ركاب قطار كما كنا فى غربتنا. وقد يقول قائل بأننا خرجنا بمزاجنا وأن الذين أخرجتهم الحرب من بيوتهم خرجوا مجبرين. ولكن الحقيقة إننا أيضا خرجنا مجبرين وإن لم نكن بنفس الطريقة والسرعة والنهج. اضافة إلى أن المؤلم حقا هو أن هنالك اغرابا لم يكتفوا بنهب بيوت اجدادنا وآبائنا، بل قاموا باحتلالها، وفيها رائحة آبائنا وكل إرثنا وذكرياتنا.

معرض الصور