19/08/2023

فوزي المرضي الأسد

محمد عبد الماجد

الذين بقوا في الخرطوم في هذه الأيّام التي تشهد فيها العاصمة (رحى الحرب) ووطيسها، يعرفون جيداً أنّ (الباعة الجائلين) يمرون عليهم في ساعات اليوم، خاصّةً في الفترتين الصباحية والمسائية، من وقت لآخر بعربات الكارو وهم يعرضون للناس بضائعهم، ويعلنون عنها بأصوات فيها شيءٌ من الحرب.

بعضهم يصيح: اللبن اللبن، وبعضهم يصيح: البصل البصل، ولا يزيدون في ذلك، ثُمّ يظهر آخر في وقت يعرفه أهل الحارة جيداً وهو يصيح: البيض البيض.

وقد يتأخّر بائعو (اللبن والبصل والبيض) وينوب عنهم جميعاً دوّي الانفجارات، وأزيز الطائرات الحربية، وربما تصلك (الطلقة) حتى دارك، وتلحقك (الدانة) في منزلك، كما فعلت مع الراحلين الجار الهلالي عبد العزيز أبو شنب وحسن بركية لاعب المنتخب الأولمبي وغيرهما، فهي أسرع من الباعة في الوصول إليك، وهي خدمة (الديلفري) المُتاحة والوحيدة في الخرطوم هذه الأيام.

نجيب محفوظ يقول: الخوف من الموت، لا يمنع الموت، ولكنه يمنع الحياة، لذلك نتعايش بتلك القناعة إيماناً واحتساباً. وليس في الآجال (استثناءٌ)، ولا في (الكتاب) المسطور تقديمٌ أو تأخير. نُحاول في تلك الظروف أن نمارس حياتنا بصورة طبيعية وسط الركام.

كل هذه الأشياء المتمثلة في العرض (الصوتي) للبضائع أضحت من مظاهر الحياة، ومن برامج اليوم في الخرطوم، وهي مظاهر تمنحنا شيئاً من الطمأنينة بأنً الحياة مُستمرِّةٌ. قد يخلف بائع اللبن أو البصل أو البيض موعده كما أشرنا لذلك، لأسباب (حربية) أو لظروف (الخريف). ولكن الرصاص والدانات والانفجارات والطائرات الحربية والانتهاكات لا تخلف موعدها، كما قال المتنبي وهو يتحدّث عن الحمى (ويصدق وعدها والوعد شر)، حتى عندما يُعلن عن (هدنة) بين الجيش والدعم السريع، لا يتأخّر الرصاص ولا الدانات، إذ يبدو أنّ تلك (الهدنات) أصلح الأوقات عندهم لضرب النار.

لاحظ من عجائب الزمن أنّ الحرب أصبحت في الخرطوم وولايات دارفور هي (الطبيعة)، وهي الأمر المُعتاد، والتوقُّف عن الحرب وضرب النار صار مجرد (هدنة)، وحتى الهدنة لا يتم الالتزام بها.

أصبحنا نبحث في (الهدنة) عن (الهدنة)، والأعمى في المائدة سأل عن (الفول) ليس من أجل استهدافه، وإنما من أجل أن يتجنّبه!!

يوم أن رحل الكابتن فوزي المرضي جاء بائعو (اللبن والبيض والبصل) تباعاً وكلهم كانوا ينادون: الحُزن.. الحُزن.. أو هكذا بدا لنا، فلا بصلاً رأينا ولا لبناً، حتى أزيز الطائرات الحربية يومها كان حزيناً يشبه (اللطم)، وكأن دوّي الانفجارات هو الآخر (يندب). هذا الحُزن الذي عَمّ البلاد لم يكن مُجرّد (هُدنة)، يلتزمون بها أو لا يلتزمون، وإنّما كان وضعاً طبيعياً وحالة عامة سيطرت على كل القلوب بعد رحيل الأسد فوزي المرضي.

أما عن الهُدنات، فهم لا عهد لهم ولا وفاء ولا التزام حتى في ساعات (السلم). أتتوقّعون منهم أن يلتزموا بالعهد والمواثيق وهم في حالة حرب؟

البندقية لا عهد لها ولا أمان.
في قلبي رقعةٌ للحُزن تتّسع يوماً بعد يومٍ حتى إنِّي أعلنت أخيراً بشكل رسمي قلبي منطقة أحزان.

رحل فوزي المرضي فتجدّدت الأحزان. والوسط الرياضي هو أكثر الأوساط ترابطاً وتقارباً ويتداعى للسهر والحمى عندما يشكو منه عضو، فكيف الحال إذا كانت تلك الشكوى رحيلاً من هذه الدنيا؟ وكيف هو الوضع إذا كان ذلك العضو هو فوزي المرضي الذي كان كل شيء؟

مازلت أذكر داؤود مصطفى وهو كما الفراشات يتحرّك خفةً ورشاقةً وثقافةً. أذكره ببنطال جينز يميل لونه إلى السواد، وحقيبة يضعها على كتفه، وحديث دائم عن زيدان إبراهيم. صورته بتلك الهيئة لا تفارقني.

كان يحمل محبةً عظيمةً لزيدان إبراهيم. عندما يحدثك عن زيدان كأنك تسمع زيدان وهو يشدو بفراش القاش. داؤود كان خلية نشاط وعملاً مُستمرّاً. كان مهموماً بالغير ومعنياً بالتواصل معهم.

هلالية داؤود مصطفى رحمة الله عليه مثل (كوب الحليب) الصافي، وكذلك كان قلبه الأبيض.

ويمر على الخاطر الزميل علي همشري الصحفي والكاتب الساخر، والشاعر ورجل الأعمال والقطب الذي شغل الوسط الرياضي، في توقيت كان فيه صلاح إدريس وجمال الوالي يسدان الأفق شماله وجنوبه.

أذكر الراحل محمد أحمد دسوقي الذي خُلق ليكون (رئيس تحرير)، كان كذلك في الشارع وفي البيت كما في المكتب يحكي الهيبة والشخصية القوية.

أذكر عبد المولى الصديق أكثرنا حُبّاً للهلال، فهو (صوفي) يذوب وَجْدَاً في الأزرق.

أذكر عبد المنعم مختار كان يمارس هلاليته الصارخة في صمتٍ..!

لا أنسى كذلك، الشاب الزميل الصحفي عز الدين محمود الذي كان كتلةً من حواس.

وفي أدب السخرية والعشق الخرافي مجدي مكي وصلاح مليشيا.

وفي الجانب الآخر، نذكر عبد المجيد عبد الرازق، الذي كان يُمثل قِمّة الحياد والمهنية مع مريخيته التي لا يُهادن فيها.

وأذكر صلاح سعيد القلم الذي استحق بجدارة واستحقاق لقب (سيف المريخ المسلول).

في فواجعنا أيضاً، الشاب النحلة عبد الله قانون، والمنصّة الإخبارية المتحركة عدلان يوسف، وقبله الأستاذ عبده قابل الذي كان مكتبة للإرشيف الرياضي.

وآخرون رحلوا، كان آخرهم الهرم الرياضي ميرغني أبو شنب. سوف نعود إليهم إن أمد الله في الأعمار لاحقاً. وآخرون سوف يأتي ذكرهم لاحقاً، منهم أحمد عوض عضو أولتراس الهلال، الذي كان عشقاً أزرق يمشي في الأرض.
رحمهم الله جميعاً وأحسن إليهم في دار البقاء. ولا ننسى من الرحمة سيف الدين علي ومحمد سليمان دخيل الله والمعتصم أوشي.

أبقى اليوم مع فوزي المرضي، الذي جعل من ملعب الهلال (عريناً)، الداخل فيه مفقودٌ.

إذا أدرت مُحرِّك البحث في غوغل أو في القلوب عن الأكثر عشقاً وحُباً للهلال والأعظم حماساً، سيتصدّر البحث (فوزي المرضي)، وقد منحه حماسه وغِيرته على الهلال لقب (الأسد)، فهو أسدٌ. أسدٌ، حتى شكله وملامحه أضحت (أسدية)، ونظرته الحادّة يحكي فيها نظرة الأسد، واحسب قاطعاً أنّ الأسود إذا عظمت حماستها، تخاطفت فيما بينها لقب (فوزي المرضي) تنافساً من أجل أن يطلق على أسدهم (فوزي) فيقال عن الأسد، إذ تميّز واستأسد (فوزي المرضي).

صورة فوزي وهو يستقبل هيثم مصطفى بعد استبداله في الدقيقة (90) والهلال مُتقدِّمٌ على الأهلي المصري بثلاثية نظيفة، مازالت في ناظري. كان الملعب حينها يَغْلِي كالمرجل، وكذلك كان قلب فوزي المرضي الذي أنهكه الغليان حتى أصابه الضعف والمرض. فكم عملية أُجريت لقلبه بسبب حُبِّه وغِيرته على الهلال.

إذا كان حُبّ الهلال وعشقه رجلاً فهو (فوزي المرضي). أعتقد أنّ فراسة الأهلّة وحماسهم وغِيرتهم أصلها (فوزي المرضي).

وفصيلة دم الهلالاب قبل الفحص وبعدها (فوزي المرضي)، ولون الهلال الأزرق والأبيض وفوزي المرضي.
لون الحماسة في الهلال (فوزي) يميل إلى (المرضي) الناصع. أقول إنّ في بطاقة عضوية نادي الهلال للتربية رقم البطاقة (جكسا)، وتاريخ الإصدار (والي الدين محمد عبد الله)، ومكان الإصدار (فوزي المرضي).

عاصمة الهلال هو (فوزي المرضي).
في المستطيل الأخضر كان يطربني منصور بشير تنقا وأنور الشعلة وهيثم مصطفى ومهند الطاهر وبشة.

خارج المستطيل يطربني فوزي المرضي. وجوده في المنطقة الفنية أو في الدكّة يمنح الأهلة الثقة والأمان والطمأنينة.
حتى الخصوم كانت تصيبهم الرجفة والوجوم عند مشاهدته (أسداً).

المتواليات الست على المريخ لعب فيها فوزي المرضي دوراً كبيراً. تحقّقت الانتصارات إلى جانب العامل الفني بفضل العامل (النفسي) الذي كان فوزي المرضي أستاذ علم نفس فيه. وفوزي في تلك المُتواليات كان يقود الهلال فنياً ونفسياً.

كان فوزي المرضي يمنحنا الثقة حتى وإن صرّح في الصُّحف أو ظهرت صورته في الصُّحف أو التلفزيون.

في مباريات كثيرة كان الهلال فيها يكون في حاجة للدعم المعنوي والنفسي، وكانت الاستعانة تتم بواسطة إدارة الهلال والجهاز الفني بفوزي المرضي، ليقوم بتسجيل زيارة للفريق في التمرين الأخير للهلال قبل المباراة. لم يكن فوزي يتأخّر عن زيارة الهلال ومُؤازرته حتى عندما يكون في غرفة الإنعاش.

هذه الزيارة التي يقوم بها فوزي لم تكن تمنح الهلال الدافع والحماس فقط، كانت تلك الزيارة ترهب الخصم أيضاً. إنّه رجلٌ يحكي الهلال. نحس فيه بالهلال ونجد الهلال فيه. في أنفاسه، في صوته، في مشيته في كل شيءٍ.

حُزننا على فوزي المرضي كان حُزناً مركباً، لأنّ فوزي المرضي شهد قبل رحيله، رحيل فلذة كبده وابنته الدكتورة آلاء، التي سقطت مغشيّاً عليها أمام عينيه رحمة الله عليها بسبب مقذوف ناري في أول أيام حرب السودان، إضافةً إلى إصابة زوجته زينات أحمد عثمان التي انتقلت إلى العناية المُركّزة، في الوقت الذي قُبرت فيها بنتها.

جسّد فوزي المرضي حالةً من الصمود والصبر، وكان يستقبل المكالمات في ثبات من الجميع في عزاء ابنته الطبيبة. لكن يبدو أنّ الحُزن كان غالباً رغم الصبر والاحتساب، ليلحق فوزي المرضي بعد أيّامٍ قليلة بابنته الطبيبة، حيث رحل فوزي المرضي في مساء الجمعة 5 مايو 2023 أي بعد 20 يوماً من بداية الحرب ووفاة ابنته الطبيبة.

حُزنه على بنته جعله لا يحتمل البقاء بعدها أكثر من (20) يوماً.

اللهم نسألك الرحمة والمغفرة لفوزي المرضي ولابنته ولكل ضحايا الحرب.
اللهم احفظ السودان وأهله وأعِد إليه أمنه واستقراره.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
………

متاريس
نسأل الله تعالى السلامة والصحة والعافية لكل أبناء السودان، وندعو بذلك ونحن في هذا المقام لأساتذتنا الأجلاء الرشيد بدوي عبيد وكمال حامد وعلي الريح ومامون الطاهر وهساي وشجرابي ورمضان أحمد السيد وأحمد الحاج مكي وعبده فزع وعلم الدين هاشم وود الشريف وإسماعيل حسن وأبو جميل وجقود والجنيد وخالد ليمونة والصحّاف وأبو سوط وأبو شاكوش وسليم أبو صفارة وصحاف النيلين وإسحاق أبو قرن.
وكل السودان.

كونوا بخير، رغم أننا ينقصنا الكثير، لكن أكبر ما ينقصنا رؤياكم الغالية.
….

ترس أخير: الرحمة للجميع.

معرض الصور