29/08/2023

القذيفة لا تُفرِّق بين (ضابط) الطبل و(ضابط) العسكر!!!

محمد عبد الماجد
قلت في مكاتبة سابقة، إنّ كل (غسالي الملابس) في الأحياء أو ما يُطلق عليهم حرفيّاً (مكوجية)، يتميزون بالأذن (النضيفة) والقرار السليم، فهم (سمِّيعة) للاذاعة من الدرجة الأولى، بذوق عالٍ وأذن مُرهفةٍ.

(المسجل) الذي يكون مربوطاً بدلق أو دبارة أو (استك) أو (سَير)، أمرٌ ثابتٌ وراسخٌ في كل محلات المكوجية، وحتى عندما لا نجده بتلك الصورة المُعتادة نرسمه على هذا النحو في أذهاننا. مثل الحب عند نزار قباني (الحب في الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه).. ونحن نخترع (المسجل) بصورته التقليدية إن لم نجده في محل (المكوجي).

أنا لا اكتفي بذلك، وأذهب أبعد في هذا المضمار، إذ ارتبط عندي ذلك (المسجل)، أو (الراديو) القديم ذو الغلاف البني الداكن بالفنان الطيب عبد الله وهو يغني تحديداً أغنية (السنين) فما أن أزور (مكوجياً) إلاّ وأجد هذه الأغنية (تلعلع) من دكان الغسّال بصوت الطيب عبد الله (العذب)، تستمعون الآن من كلمات وألحان وأداء الفنان الطيب عبد الله لأغنية (السنين) - قالوا لي أنساه وامسح من خيالك ذكرياته وانسى كل الماضي وأبعد عن طريقه عن حياته - وهل هنالك خيار أقسى من هذا؟، في ذات السياق، كما يقول ناس (الأخبار)، ارتبط عندي الفنان علي اللحو (بمحطة الصهريج) الحاج يوسف، وذلك لأنني سمعته في أمسية (عتيقة) وأنا طالبٌ في أحد أكشاك الحليب وهو يغني في (الطير الخداري) ارتبطت عندي الأغنية بالمكان (محطة الصهريج) وبكل (كوب حليب) شربته أو لم أشربه بعد ذلك. (ونحن ناس بنعيش حياتنا الطيبة بالنية السليمة وأي زول بندور سعادته تشهد الأيام عليمة).

صورة (الراديو) الذي يشتغل بحجارة البطارية ويحتاج في بعض الاحيان ان تلكزه، او تضربه بقبضة يدك، لتسمع صوته ، خاصة اذا غيّرت (الموجة). ذلك الراديو في البيت موضعه دائما يكون فوق (الفضيّه) قبل ان تسود (الثلاجة)، ويوضع عليها، كما اننا كنا نسمع برنامج (عالم الرياضة) من داخل استديوهات المطبخ في الوقت الذي تجهّز فيه (الحاجة) لوجبة الغداء، والراديو حينها يوضع على شباك (المطبخ).

كانت الحياة احلى قبل الفيس والواتس والقنوات الرياضية المشفرة.

هنالك أشياءٌ ترتبط عندك بأشياء مُعيّنة وتبقى خالدة وراسخة في ذهنك تحمل تفاصيلها في دواخلك، وتعيد محياها كلما مرّ على الخاطر طيف منها.

كذلك ارتبط عندي الفنان حسن خليفة العطبراوي بأغنية (نسانا حبيبنا الما منظور نسانا) التي كانت تقدمها إذاعة أم دمان دائماً قبل نشرة الساعة الثالثة، هذه الأغنية في ذلك التوقيت مثل دِرِب الجلكوز. تسري في الأوردة مباشرةً. عندما تسمع العطبراوي في وقت الهجيرة ذاك تحس أن صوت العطبراوي مثل (الغيمة) او (النسمة) التي تخفف عليك حر الهجير وشمسها الحارقة.

إما إذا كان الفصل فصل شتاء، فصوت العطبراوي هو (الدفء) الذي تشعر معه بالدفء كله.

للأمكنة سلطان، إذ تربط عندك بعض الأمكنة ببعض الأحداث أو بعض الأشخاص.

يقول الأديب السوداني معاوية محمد نور في قصته القصيرة (المكان) وهو يتحدث على لسان الراوي الذي يمثله:
(وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، فإذا ساعدته الظروف وذهب إلى ذلك المكان رآه مثلما تخيّله، حتى الوضع وأشياء دقيقة لا تلوح في خاطر إنسان، وقد يدهش أحياناً حينما يزور مكاناً لأول مرة فيُخيّل إليه أنه قد عرف هذا المكان قبل الآن في حياة أخرى، والكل يظهر أمامه كحلم غريب. لكن الإلفة أو الإيناس الذي يشعر به نحو تلك الأمكنة ومتعرجاتها يُخيّل إليه أنه قد عرف ذلك وصحبه ردحاً من الزمن لا شك في ذلك ولا ريب فيه).

لا أنسى الحالة البهية والبهجة التي ينثرها عمر الشاعر عندما كان يظهر بالعود في التلفزيون، فيحول سهراتنا الى ليالي البهجة، ويجعل عيدنا أكثر من عيد.

كان عمر الشاعر من ثوابت برامج العيد في التلفزيون، طلته الجميلة مع التجاني حاج موسى كانت تجعل عيدنا أكثر من عيد.

عمر الشاعر مع الفاتح كسلاوي يمثلان (قاش) الألحان السودانية مثلما يمثل كجراي والحلنقي وهلاوي (شلال) الكلمة أو (توتيلها).

عمر الشاعر الذي تخرج في معهد الموسيقى والمسرح وعمل في سلاح الموسيقى كان سلاحه (لحنه)، مع ذلك جاء ورحل في الحرب التي لا صوت يعلو فيها غير صوت الرصاص.

كان من الطبيعي أن يرحل عمر الشاعر وهو لا سلاح له غير (عوده) في زمن البندقية والدبابات والمدفعية والطائرات الحربية.

وكما كان رحيل عمر الشاعر حزيناً، وهو يرحل خِلسةً في زمن الحرب التي دمّرت (معنويات) الناس ومقاوماتهم النفسية، وهي مما لا شك فيه أثّرت (نفسياً) على، عمر الشاعر وهو يعاني من مرض السكر ليرحل ويترك فراغاً عريضاً وكما رحل عمر الشاعر بحسرته، رحل عركي عضو فرقة عقد الجلاد مُتأثِّراً بإصابته بدانة أو شظايا من أسلحة الحرب اللعينة، وهو ليس (ضابطاً) في القوات المسلحة أو الدعم السريع، هو ليس غير (ضابط إيقاع) في فرقة فنية هي فرقة عقد الجلاد وليس فرقة حربية أو عسكرية.

الدانة والرصاصة لا تفرقان بين (ضابط) الإيقاع و(ضابط) الكلية الحربية.. إنها الحرب يا عركي.!!
وتبقى (الصور) من بين هذا وذاك مُتناثرة في الدواخل.

من بين اعتقاداتي الخاصة وأنا استرجع ابتسامة عمر الشاعر وهو يحضن (العود) عندما يطل في تلفزيون السودان وعركي وهو يتوسّط أعضاء فرقة عقد الجلاد عندما كانت الخرطوم تغني، حيث أحسب أنّ الخرطوم عاشت (شبابها) مع زيدان إبراهيم، لم تعش الخرطوم شبابها كما عاشته مع زيدان إبراهيم حينما كان فنان الشباب الأول.

كنا نمسك (قُلُوبنا) من تلابيبها عندما يغني زيدان (خلاك وراح القاش)، وهل هناك قسوةٌ أكثر من ذلك؟
كذلك أجزم أنّ أغنيات حمد الريح مثل فصول السنة في التنوُّع والاختلاف. هذا الفنان غنى للدوش (الساقية)، وغنى لصلاح أحمد إبراهيم أروع كلماته (يا مريا)، وغنى كذلك لمحجوب شريف (مناديلك)، وهذا الثلاثي الدوش وصلاح وشريف لم يجمع بينهم بعد محمد وردي إلا حمد الريح.

غنى حمد الريح لسليمان عبد الجليل (الرحيل)، وغنى له (الوصية) والأغنيتان من أغاني (العزم) في الأغنية السودانية.
غنى حمد الريح للمرهف عثمان خالد (إلى مسافرة)، وغنى لشاعر الرومانسية ورئيس جمهورية الحب اسحاق الحلنقي (حمام الوادي) و(شالوا الكلام جابوه ليه).

شكّل حمد الريح ثنائية بديعة مع عبد الرحمن مكاوي (كيف لما الفراق يحصل)، وغنى لعزمي أحمد خليل (بريدك وفي انتظار عينيك كملت الصبر كله)، وغنى لإسماعيل حسن أغنية رمزية (طير الرهو)، وأبدع عندما غنى لكامل عبد الماجد (تائه الخصل).

حمد الريح غنى لنزار قباني (صغيرتي)، وغنى لأبو القاسم الشابي (الصباح الجديد) وهذا شئ لم يسبقه عليه فنانٌ، حيث غنى حمد الريح لأكثر من ثلاثين شاعراً.

التنوع الموسيقي واللحني أيضاً لا يقل عن تنوعه في اختيار الكلمات، فقد لحن لحمد الريح ناجي القدسي والفاتح كسلاوي ومحمد سراج الدين وعمر الشاعر ويوسف السماني والعاقب محمد الحسن، إضافةً إلى روائعه اللحنية التي وضعها بنفسه.
سوف أعود إلى حمد الريح في مساحة منفصلة.

نبقى مع تلك الأيام الخوالي، حيث لا ننسى إطلاقاً عندما كان الدخول للخرطوم والتوقف عندها لا يتم لك إلا بحفل لعقد الجلاد أو محمود عبد العزيز.

حفلات عقد الجلاد كانت (ثيرمومتر) لثقافتك وقياساً لذوقك الفني.
أما محمود عبد العزيز فقد كانت (ألبوماته) يتسابق عليها طلاب الجامعات الذين يحرصون على اقتنائها مثلما يحرصون على (دفاتر المُحٌــاضرات) .
كنا ننتظر آخر شريط لمحمود عبد العزيز كما ننتظر جدول الامتحانات عندما يتم تعليقه في (البورد).
عقد الجلاد منذ ظهورها الأول بعثمان النو وشمت وحواء المنصوري وبانقا وأنور وجويلي إلى حمزة سليمان ومنال بدر الدين وحتى زولو وشبكة كانت تمثل واجهة حضارية وثقافية للخرطوم، حيث كان لا يحسب لك الترقي ولا التحضر إلا بحضور حفلة لعقد الجلاد في إستاد ود نوباوي في رأس السنة أو في نادي الضباط أو المكتبة القبطية.

الخرطوم الآن لم تفقد بنيتها التحتية فقط، الخرطوم فقدت هويتها وبنيتها الثقافية وشكلها الاجتماعي الذي كانت تتميّز به.

الهلال والمريخ كانا شكلاً آخر من أشكال التواصل الاجتماعي الحقيقي في الخرطوم، بل في السودان كله.
ما نجح فيه الهلال والمريخ فشلت فيه كل الحكومات وكل الأحزاب.
في الفاشر وبورتسودان وفي نيالا والجنينة وبابنوسة توجد أندية تحمل اسم الهلال والمريخ، بل حتى في جوبا وواو هنالك هلال ومريخ. وهذا ما فشلت فيه السياسة.

هوية الخرطوم الآن تتحوّل حيث يسود النهب والسلب، وليالي الخرطوم الثقافية أصبحت تتبارى فيها المدافع والقنابل.
المسارح والنوادي والملاعب أصبحت ثكنات عسكرية!!

نشتاق إلى زمن كان فيه عمر الشاعر هو عنوان الخرطوم حيث (العزيزة) سعد الدين إبراهيم و(بين الزهور متصور) ويا الغاريك جمالك. و(في الليلة ديك) ألحان عمر الشاعر رحمة الله عليه شئ من (اللباقة) الموسيقية العالية. وكان عركي مع عقد الجلاد يمثل عندنا قمة المتعة الفنية التي نجدها في حفلات عقد الجلاد. عركي كان حالة لوحده في عقد الجلاد.
اللهم أرحمه واغفر له.

كنا ننتظر (عالم الرياضة) بفارغ الصبر على أثير إذاعة أم درمان. وكنا نركب (بصات) أم درمان عنيةً كي نمر بجسر النيل الأبيض. فقد كنا نتنافس على المقاعد التي تجاور (الشباك) حتى نستمتع بالفرجة ونحن ندخل أم درمان أحياناً عن طريق شارع الأربعين، وأحياناً عن طريق شارع الموردة.

اشتقنا للسوق العربي بكل صخبه وضجيجه.
اشتقنا لفول النوش وتمرين الهلال وكوارع أبو الزهور.
اشتقنا لاذاعة هلا ٩٦ وقهوة وشاي وكلام جرايد وسودان جديد عندما كان شباب هلا يرسمون فجر جديد لتحرير اعلام السودان من (الظروف).

نسأل الله تعالى الرحمة والمغفرة لعمر الشاعر ولعضو فرقة عقد الجلاد عركي، والتعازي لأسرتيهما وللوسط الفني قاطبة وأعضاء فرقة عقد الجلاد على وجه التحديد وللشعب السوداني كله.. ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

معرض الصور