10/09/2023

الحرب في زمن (الذكاء الاصطناعي)

محمد عبد الماجد

في الإمارات، تَمّ الاحتفاء في الأيام الماضية برائد فضائي (إماراتي) وصل القمر، أو كاد من ذلك، وهذا أمرٌ يُحسب لتقدمهم العلمي واجتهادهم العملي الذي لا ينتهي، في الوقت الذي ننازع فيه (الروح) بالخرطوم إذا أردنا فقط عبور (كوبري شمبات)، أما الوصول للسوق العربي فهو غير متاح حتى للأقمار الصناعية، أظن أنْ الكهرباء والمياه والشبكة غير متوفرة في قلب الخرطوم.

الإنسان برمته أصبح خارج نطاق الخدمة. الخدمة الوحيدة التي تصله هي خدمة الانتقال إلى العالم الآخر.

في كرري عرف القصف الجوي طريقه نحو طفلين، قبل أن تصل إليهما جرعات التطعيم ولبن الإغاثة..!
لماذا نحن أذكياء جداً في القتل والتدمير والتدثر من بعد ذلك بثياب البراءة والوطنية؟!
لا تجد حرجاً في أن تقنع ضحيتك أنّـك تفعل ذلك به من أجل الوطن.
الذئب الذي أكل يوسف لم يكن غير إخوته!! براءة الذئب هنا ليس موضع شك، مع أنه ذئبٌ!

هذه المعادلة يجب أن نقف عندها. تخيّلوا أن الذئب بريئ من دم يوسف وإخوته هم المذنبون. هل كان الذئب أرحم على يوسف من إخوته؟ الذين جاءوا إلى أبيهم بدم كذب، الأكيد أنّ الذين أخرجوه من غياهب الجب وهم غرباء عنه كانوا أرحم عليه من إخوته الذين أوقعوه فيها.

هل تعلم أنّ الوصول للكلاكلة في الخرطوم أصبح أصعب من الوصول للقمر في الإمارات؟

تبّاً لمن جعلوا (كفاحنا) من أجل الخُبز والدواء وإحكام إغلاق الأبواب!!
تبّاً لمن أرادوا أن.يحاسبونا بفاتورة (نضالهم)، واكتفوا من النضال بالحصول على جوازات سفر أجنبية. لقد أصبحوا باسم (الوطنية) من حَمَلَة الجوازات الأجنبية!
تبّاً لمن ظن ألّا وجود له ولا عودة ولا ظهور إلّا في الحرب، فانصرف إلى الاعتناء بربطة عُنقه، والأطفال يموتون عبر القصف وهم من العواصم العربية يتحدّثون بلغة الضاد والضد!

قال لي صديقي إنّه كان يبحث بين (الجثث) المُتناثرة في الطرقات عن (جثته)!!
عندما شعر صديقي بدهشتي وعدم استعياب ذلك، قال بعد تمعُّن، لا تعجب لأن كل جثة مفقودة الهوية هي جثتي.. ألمي على تلك (الجثث) لا يقل عن ألمي على (جثتي) إذا كانت إحداهن.

الحقيقة أنّ الجثث المفقودة الهوية، خنجرٌ مسمومٌ يطعن في هويتنا نحن الأحياء. إنها عار علينا وليس عاراً على الجثث. لهذا ليست الجثث هي المفقودة الهوية، وإنّما نحن من فقدنا (هوِّيتنا).. حتى المشارح وثلاجات الموتى أصبحت تترفّـع عن استقبال الضحايا. التكدُّس الوحيد الذي تشهده الثلاجات هو تكدُّس الموتى. لقد أفقرت الثلاجات وخلت إلّا من جثث الموتى.

أضاف صديقي قائلاً والحسرة تكاد أن تجعله يتحلل وأنا استمع له بترقُّبٍ كأنه يحكي عني: هذا الوطن يجب أن نخدمه بحياتنا وليس بمماتنا. لن تتقدّم أمة جعلت (الرصاص) لغة البلاد الرسمية. الدم الذي يسيل في (الاختلاف) على الوطن لو سال في (الاتفاق) لكان السودان الآن في مكان آخر.

المناضل غاندي حارب المستعمر الدخيل دون أن يطلق رصاصة واحدة، وكان مانديلا يؤمن بنفس المذهب. حارب العنصرية ليس بين البيض فقط، بل بين السود أيضاً.

يقول غاندي: (أنا مُستعدٌ أن أموت ولكن ليس هنالك أي داعٍ لأكون مُستعداً للقتل).
ويقول: (إنّ النصر الناتج عن العنف هو مساوٍ للهزيمة).

الإسلام دعا للتسامح والعفو والسلام. والسلام من أسماء الله الحسنى وبه نختم صلاتنا ونتبادله عند التلاقي وهو لغة أهل الجنة، وكان أول من نطق به المصطفى عليه الصلاة والسلام عندما فتح مكة فقد أعلن عن الأمان في منطقة عذّبه فيها أصحابه وأخرج منها وظل أهلها يلاحقونه ويترصدونه ويحاربونه حتى بعد أن هاجر منها.

قريباً من ذلك التسامح يقول غاندي: (إنّ مبدأ العين بالعين يجعل العالم كله أعمى). دائماً انا في اختبار مع نفسي وفي تحدٍ معها بالتسامح لمن أساء إلينا، والنفس أمّارة بالسُّوء. اختبر إنسانيتك بقدرتك على التسامح. لا تبكوا على هذه الغبائن والانتهاكات. أنتم من صنعتموها وروّجتوا لها حتى تجعلوا العودة للسلام مُستحيلاً.

قلت لصديقي الذي أحادثه ولكن هل يفهم (العسكر) ذلك؟ إنّ السلطة تعمي البصر. وإنّ العسكر بعد أن فشلوا في ملعبهم وتخصصهم (العسكري)، عليهم ألا يحدثونا عن السلطة والحكم والسياسة.

تدمير الوطن الآن يتم بأبنائه. لا أعتقد أن الأتراك أو الإنجليز عندما دخلوا الخرطوم مستعمرين فعلوا فيها ما يفعله هؤلاء باسم الوطن!!
حملة الدفتردار الانتقامية وكتشنر كانت أرحم!

قد لا تحتاج إلى أكثر من رصاصة لتقتل إنساناً. لكن العالم اذا حضر كله بقوته وعلمه وإمكانياته وجبروته وطغاته من أجل أن يحيّ إنساناً أو يعيد الحياة لميت، فلن يستطيع ولو لبعض لحظات.
ما صرفوه من جهدٍ وقوةٍ وتخطيطٍ وتدبيرٍ لتدمير الوطن لو فعلوه من أجل بناء الوطن لكان السودان جنة الله في الأرض.

بعض الأقاويل تقول إنّ مجمع البحرين وهو المكان الذي التقى فيه العبد الصالح بنبي الله وكليمه موسى هو مقرن النيلين. وللعلامة البروفيسور عبد الله الطيب تفاسير في هذا القول. مقرن (النيلين)، الذي يمكن أن يكون جمع بين العبد الصالح وموسى، الآن مقرن (النارين). حتى (العفاريت) تخشى أن تلتقي فيه.

أذكر أنّ والدي رحمة الله عليه رغم أنّه كَانَ مُوظّفاً عادياً ومع قلة إمكانياته المادية، كان يحرص في الإجازات وأنا طفلٌ أن يدخلني (مُنتزه المُقرن)، وأن أزور (حديقة الحيوان)، حينما كنا ندخل الخرطوم بـ (هدوم العيد) احتراماً وتوقيراً وفرحةً بالعاصمة القومية. ما كان يفعله والدي معي لا أستطيع أن أفعله مع أطفالي اليوم (مع مُراعاة فروق الوقت)، الذي كان يفترض أن يكون في صالح هذا الجيل. كانت الخرطوم تدهشنا، حتى إذا مررنا بجامعة الخرطوم امتلأت أنوفنا بالعزة، وزادت جباهنا ارتفاعاً، وأعناقنا طولاً.

في مطلع هذا القرن أو في أواخر القرن الماضي كتب الطيب صالح: (كانت الدوحة حين حللت بها أواخر عام أربعة وسبعين، بلدة صغيرة لا يؤبه لها. كثيراً ما يجف ماؤها وتنقطع كهرباؤها. أحياؤها مبعثرة، ومعمار بيوتها فوضى، وشوارعها مُتَرّبة تتسكّع عليها الفئران في رابعة النهار، العيش فيها مكابدة ومُعاناة).

انظروا أين الدوحة الآن؟ إنّها تُنافس العواصم الأوروبية وتتفوّق عليها أناقةً وبهاءً. إنّنا لا نحسدهم على ذلك والكهرباء والمياه وجودها في أم درمان أضحت أقصى أمانينا، ونحن أصحاب حضارات مُتعدِّدة ومُتنوِّعة، قامت قبل الميلاد حضارات كوش ومروي ونبتة والبجراوية والنوبة إلى السلطنة الزرقاء وأكتوبر وأبريل حتى ثورة ديسمبر المجيدة.

أم درمان غنّى لها خليل فرح قبل مائة عام لأنه توفي في عام 1932م (من علائل أبروف للمعليق). لا بدّ أنّ خليل فرح يتململ الآن في قبره والطريق الشاقيه الترام تشقّه الدبابات ويهجره أهله!

لو قدّر لقطة عاشت في الثلاثينيات من القرن الماضي أن تزور الخرطوم في عهدنا هذا ونحن نحسن مثواها، لوجدت أننا نقدم لها الخرطوم كسلة نفايات كبرى. من قال إنّ السودان سوف يكون سلة غذاء العالم جعل الأيادي (الأجنبية) تنهش في لحمنا حتى قضى الوطن نحبه فماذا ننتظر؟

الأديب السوداني معاوية محمد نور كتب في صحيفة (السياسة الأسبوعية) العدد (246) بتاريخ 22 نوفمبر 1930م مقالاً تحت عنوان (خواطر وذكريات محزونة). هذا المقال الذي جاء قبل أكثر من تسعين عاماً كتب فيه معاوية محمد نور الذي توفي في عام 1942م عن الخرطوم:

(وأنا جالسٌ على أحد المقاعد على ضفاف النيل الأزرق في مدينة الخرطوم، والنيل ينساب في مشيته هادئاً كأنه صفحة المرآة المجلوّة. وعلى يميني في النهر بضع سفن تجارية. وأمامي الخرطوم بحري، وجزيرة توتي وعلى شمالي مدينة أم درمان، يخيّم عليها الصمت ويكسوها الليل ثوباً رقيقاً. ويخيّل إليّ أن ذلك الشجر الحاني بعضه على بعض والذي يظلّل شارع الشاطئ، وذلك النهر الهادئ، بما فيه من قنطرة وأمامه مدينة وجزيرة وما فوقه من سماء تحسبها لشدة زرقتها وانكفائها على حدود النيل أنها النيل، وأن النيل سماء. صورة يمكن أخذها ووضعها في إطار التأمُّل فيها واستلهام الوحي منها! وخطر سفينة من تلك المرصوصة، فحسبت لأوّل وهلة أنها لا شك طامسة إثر ذلك الجمال. عابثة بذلك الهدوء الصامت متلفة لتلك الصورة الرائعة، ولكنها لم تصنع شيئاً من ذلك، بل أعطت الصورة لوناً، وزادتها حياةً وبشراً. وما يخيّل للرائي أنها سفينة تعبر نهراً، وإنما كأنها قلم يرسم خطّاً على صفحة، أو كأنها شهاب يشق عنان السماء في اتّئاد وسرعة! عجباً لمنظر النيل ليلاً! ليس بعده جمال ولا جلال، وما يفوقه منظر مما رأيت سحراً وروعةً. وما تستجيش الخواطر ولا يصفو الذهن ولا يتألّق الفكر ولا تكثر الذكريات وتغمر النفس فيضاً وحنيناً، مثل ما تفيض النفس في حضرة النيل، ويحنّ القلب، ويحلو في كلّ ذلك الشجو والحنين).

انظروا كيف كانت الدوحة عندما زارها الطيب صالح في السبعينات (تتسكّع فيها الفئران)، وكيف كانت الخرطوم كما وصفها معاوية محمد نور في 1930م (تخطر فيها السفن).

الأمر جد مُخجلٌ، ما يجعلنا نقول باستحياء حمى الله السودان من أبنائه.. أما أعداؤه فهو كفيلٌ بهم.
لا أعتقد أن غردون الذي قطع جيش المهدي رأسه في الخرطوم كان يتمنى لنا أكثر من ذلك.
إني لأشعر بالحياء والحكومة تنقل أعمالها إلى بورتسودان التي أصبحت العاصمة البديلة.

ألا تذكروا عندما كنا نشاهد (عنتريات) السلطة قبل الحرب عندما يخرج موكب سلمي في الخرطوم؟
هل نسيتم عندما كانوا يغلقون جسري المك نمر والمنشية بالحاويات؟
أين الشرطة التي كانت في خدمة (قمع) الشعب؟

الآن ينقلون العاصمة إلى بورتسودان ولا يجد جبريل إبراهيم بدّاً وهو نازحٌ في العاصمة البديلة من زيادة سعر الوقود وزيادة رسوم الجواز!

ما أسهل تنازلكم وتنكركم للخرطوم. يموت المواطن السوداني في أم درمان والجنينة ونيالا برصاصة طائشة أو عبر القصف الجوي، في وقت يتّجه العالم فيه نحو الذكاء الاصطناعي. ذلك التطبيق الذي يمكن أن يجعلك تسمع (حرامي القلوب تلّب) بصوت أم كلثوم، ويمكن أن يجعلك تشاهد رامي كرتكتيلا في ليفربول وموفق صديق في مانشستر سيتي.

أشاهد في هذه الأيام رونالدو ومحرز وماني وبنزيما وبونو ونيمار في الدوري السعودي. لا أدري ذلك الأمر حقيقة أم (ذكاء اصطناعي)؟ العالم يتطوّر ويتقدّم ونحن التطوُّر الوحيد الذي حدث لنا هو أن يموت المواطن السوداني برصاصة أو قذيفة بدلاً من أن يموت بالملاريا.

الذكاء الاصطناعي بعد عشر سنوات يمكن أن يجعل كل المؤسسات تستغنى عن الإنسان بحيث يحل الإنسان الآلي محله، حتى إنني أتوقّع أن نبدّل ساندوتش الطعمية بساندوتش سمك (اصطناعي). فقد دخلت الصناعة حتى على الحُــب، وصار التعبير عن الأشواق يتم عبر الرموز وأصبحت (الحبيبة) التي كنا نغني لها (حاول يخفي نفسه) متوفرة (24) ساعة (اون لاين).

الحرب في السودان دمّـرت البنية التحتية، وقضت على أساسيات الحياة وعلى مقومات كانت من زمن الإنجليز، في الوقت الذي يحدث في كل يوم جديد في العلم والتكنولوجيا. نحن نفقد ما تم تشييده قبل مائة عام، والعالم يسبقنا أصلاً بمائة سنة (تقديم).

لا عشم لنا في المستقبل.. المؤسف اننا ندمر تاربخنا.
لا نملك غير التاريخ .. لذلك قرروا ان يدمروه.

انظروا إلى السعودية وقطر والإمارات وتعلّموا من تلك الدول لا تثريب عليها، نحن أصبحنا نتيمّم في حضرة النيل وحصار الفيضانات ونزول المطر. أحياناً أشعر أنّ النيل ارتكب أكبر حماقاته عندما جعل ملتقاه في الخرطوم.

هل سوف يتم نقل مقرن النيلين إلى بورتسودان أيضاً.
محمد الأمين تِرِك كان يحلم أن ينتقل إلى العاصمة الخرطوم، فتكرّموا بنقل العاصمة إليه في بورتسودان.
تفكير (الفلول) يتجسّد في زيادة رسم الجواز.
فهل هناك دليلٌ أقوى من هذا؟
انهم الفلول.

معرض الصور