28/09/2023

تحديات بناء النظام السياسي الجديد في السودان ( ١ ـ ٣)

منتصر ابراهيم

مع التقليل بقدر الإمكان من الاستغراق في مقدمات نظرية حول إشكاليات بناء النظام السياسي القديم في السودان، فإننا نقرر الدخول في حوار حول تحديات بناء النظام السياسي الجديد، لكون أن انطلاق أول طلقة في حرب ١٥ أبريل، كانت إيذاناً ببداية حقبة جديدة حول جدل بناء الدولة الوطنية في السودان؛ والتي كانت تدور في فلك الحروب والصراع حول السلطة، نجحت فيها القوى المهيمنة على تركة ما بعد الإستعمار في المحافظة على قبضتها على السلطة، وبشروط معيقة لبناء الدولة الوطنية (جوهر الأزمة). وقد وصلت هذه الأزمة ذروتها بتحلل عناصر بنية دولة ما بعد الاستعمار، وكانت أقوى هذه العناصر ممثلة فى القوات المسلحة، التي تحتضن مصالح طبقية استعصت على المساومة بادعاءات زائفة، زاعمة أنها مركز القرار الوطني، وذلك في سياق الجدل حول هيكلة مؤسسات الدولة الضرورية في سياق الانتقال والتحول الديمقراطي في السودان.

النقاش الضروري حول موضوع الانتقال والتحول الديمقراطي في السودان، لابد أنه كان ظاهراً للمراقبين والفاعلين، أنه كان يصدم بصخرة هيكلة مؤسسات الدولة، ومنها القطاع العسكري بطبيعة الحال. لذلك كان حتمياً أن تقود الممانعة حول إثارة هذا الموضوع وتفاصيله إلى إندلاع حرب حقيقية، لطالما ظلت قوى الهيمنة رافضة للاستجابة لمقتضيات اتفاقيات السلام في البنود المعنية بانفاذ الترتيبات الأمنية، والتي كانت في الأساس يجب أن تكون معرّفة بصورة واضحة أنها تعني هيكلة القطاع العسكري بشكل كامل، والذي كان سيوفر الإطار الموضوعي لبناء مؤسسات عسكرية وقطاع بيروقراطي ينسجم مع إتجاه التغيير السياسي والانتقال في السودان. لذلك فإن حرب ١٥ أبريل يقتضي أن يعيد تعريف الأزمة، ومطلوبات حلها بالشكل الذي يمنع تفاعل عناصر الأزمة القديمة لتظهر في ثوب جديد، وهو ما سنطلق عليه مشروع بناء النظام السياسي الجديد في السودان.

يتشكل النظام السياسي الجديد على ركام النظام السابق الذي إنتهى بحرب ١٥ أكتوبر كما اسلفت، والذي كانت تمثل فيه القوات المسلحة آخر أركانه. وكان ذلك النظام يتكون من ثلاثة ركائز أساسية مكونة لأولغارشية مهيمنة بشكل كامل على الدولة سياسياً واقتصادياً:

١. القوى السياسية المكونة في حقبة الإستعمار، والتي تولت إدارة شأن الدولة بعد خروج الإستعمار، ممثلة في الطائفتين الكبيرتين، الختمية والأنصار. وقد تحللت هذه القوى بعامل التعاقب التاريخي، ونتاج التدافع السياسي الذي أخذ أشكالا مختلفة من ثورات وحروب، وكان آخرها ثورة ديسمبر ٢٠١٨ التي أبرزت حضور أجيال جديدة، وأطروحات سياسية واشواق تكشف عن تطلعات الدخول في حقبة جديدة. وبتحلل القوى السياسية لدولة ما بعد الاستعمار، أصبح واقع تأسيس نظام سياسي جديد أمرا واقعا، يتطلب التكامل مع عناصر اخرى لبناء الدولة الوطنية في السودان.

٢. العنصر الثاني في مكونات دولة ما بعد الاستعمار، يتمثل فى الجهاز البيروقراطي للدولة، والذي كان يجسد الطبيعة الاستعمارية في علاقاته وأخلاقياته؛ حيث تحلل بعامل عدم التحديث، وبسبب الفساد وهو الظاهرة السياسية الابرز لنظام الإنقاذ طوال الثلاثين عاماً الماضية، وقد سقط النظام عبر الثورة بسببه، ووقف عقبة أمام تشكل النظام السياسي بعد الثورة حيث كانت تمثل قلعة ممانعة ضد التغيير والانتقال.

٣. العنصر الأخير لدولة ما بعد الاستعمار، يتمثل فى القوات المسلحة التي بذلت جهودا مستميتة لإعاقة الانتقال بكافة الأشكال. وتتمثل ممانعتها في احتضانها للقوى المعيقة للانتقال وعبر حماية الفساد بالسيطرة على الجهاز البيروقراطي. وقد كانت قضايا إدارة عملية الإصلاح الاقتصادي من أبرز قضايا صراعها في الفترة الانتقالية. وكان موضوع شركات الجيش هي العنوان المتداول بكثافة في هذا الإطار، حيث يوضح طبيعة مصالح طبقة الضباط المسيطرة على الدولة، واتجاه التطور السياسي، إلي أن وصل إلى هذه المرحلة من المواجهة المسلحة بسبب الانسداد في قدرتها على المساومة على مجموعة المصالح المهددة لوجود النظام السياسي السابق المعيب، فكانت الحرب هي النتيجة الحتمية لتعقُد البناء الطبقي (لمؤسسة ضباط الجيش).

إذن من خلال تحليل طبيعة بنية دولة ما بعد الاستعمار، الذي اصطلح عليه مؤخراً بدولة ٥٦، نجد أنه فقد إمكانية استمراره. ويمكن وصفه بالتحلل الذي فقد إمكانية التفاعل العكسي لتجديد نفسه كنتيجة حتمية. إذن فإننا أصبحنا الآن أمام تحدي بناء نظام سياسي جديد.

فما هي تحديات بناء النظام السياسي الجديد. أولاً هناك إتفاق عام حول وجهة تأسيس الدولة الوطنية في السودان، عبر آخر محطات التوافق السوداني ممثلاً في شعارات ثورة ديسمبر كمباديء تأسيسية، يقوم عليها النظام السياسي الذي ينشده السودانيين: الحرية والسلام والعدالة.

معرض الصور