29/09/2023

الصحفيون.. الحرب تمزق أوصال مهنة المتاعب

مواطنون - علي الطاهر
الحرب التي اندلعت منتصف أبريل الماضي، شردت أكثر من 600 صحفيًا سودانياً ظلوا دون مرتبات ستة أشهر كاملة، يكابدون العنت والمشقة من أجل توفير مبالغ مالية تلبي احتياجات أسرهم التي أصبحت حياتهم مليئة بالروايات الحزينة وقصص مأساوية لم تنشرها صفحات جرائدهم المتوقفة، والبالغ عددها 25 صحيفة يومية سيارة ومتخصصة.

قصص مأساة الصحفيين بمثابة شاهد عيان يؤكد بقسم غليظ أمام محكمة الواقع، إن المؤسسات الإعلامية وملاك الصحف تخلوا عن منسوبيهم، وإن الحرب غيرت أنماط حياتهم بشكل قسري، بيد أن الغالبية منهم وضعوا الأقلام جانباً وهربوا من داخل صالات التحرير يبحثون الرزق الحلال بين أكوام المهن الهامشية المنتشرة أسفل أسواق مدن الولايات التي نزحوا إليها، بعيدًا عن مطابخ وغرف الأخبار.

(رامي محكر) صحفي محترف كان يحتاج إلى ربع ساعة فقط ليقطع المسافة بين منزله في أم درمان، ليجلس خلف ميكروفون (إذاعة هلا) مكان عمله في العمارة الكويتية وسط الخرطوم، لكن الحرب قطعت مشواره الإبداعي الذي يبثه عبر الهواء مباشرة هو وزملائه الآخرين. وأجبره الرصاص المتناثر فوق منطقة مربعات الفتيحاب على النزوح إلى مدينة الدويم ومنها إلى كوستي حاضرة ولاية النيل الأبيض.

وقال رامي الذي رفع صورة على حسابه بمنصة التواصل الاجتماعي فيسبوك وهو يقود درداقة (أنا شغال في إذاعة هلا، وطبعًا المؤسسة توقفت لأن موقعها في العمارة الكويتية بالقرب من القصر الجمهوري وهو منطقة نزاع خطيرة والشغل مستحيل. بعدها انتقلت إلى ولاية النيل الأبيض وبدأت أعمل في سوق الإعلان عبر الموبايل. ننتج الإعلانات وفقًا لللطلب. ولم نتمسك بالأسعار لأننا مقدرين ظروف الناس، والوضع التي تمر به البلاد. والأمور ماشيه والحمد لله. وبعدها حاولنا أن نعمل في مهن أخري منها (الدرداقة) ولم نجح. ومع ذلك نقاوم من خلال بعض الأعمال الصغيرة من أجل البقاء).

أما الصحفي البارع خضر مسعود سكرتير تحرير صحيفة (اليوم التالي) فقد ترك مقر سكنه بمنطقة الحتانة أم درمان، وحمل أفراد أسرته وسافر وسط ظروف وعرة إلى كوستي. وهناك وضع شهاداته بجانب خبراته المهنة داخل حقائبه في المنزل ودخل السوق يبيع ويشتري. وعن معاناته والتجربة المريرة التي مر بها بسبب الحرب يقول الأستاذ خضر مسعود (في الحقيقة أوضاع الصحفيين الذين نزحوا من الخرطوم مأساوي ومحزن. وغالبيتهم اشتغل في أعمال هامشية بعد أن توقفت كل الجرائد عن دفع المرتبات إذا استثنينا صحفاً محددة صرفت لمنسوبيها نصف مرتبات في شكل منح شهر أبريل الماضي. كل الزملاء الذين التقيتهم لم يصرفوا مرتباتهم. هذه الأوضاع المادية السيئة هي التي فرضت على الصحفيين الشغل في أعمال هامشية).

ويضيف الصحفي مسعود (نحن كمثال، جئنا ومعي نفرا كريم إلى ولاية النيل الأبيض. تركنا مهنتنا الأساسية والتحقنا باعمال هامشية بعيداً عن تخصصنا. بعضنا يبيع الملابس وآخرين يعملون في تحويل الرصيد. وهناك مجموعة ثالثة لا زالت تبحث عن عمل وسط ظروف مادية معقدة للغاية بسبب توقف مصادر الدخل. رغم هذه المحنة والنكسة الكبيرة للصحفيين لم تتبن أى جهة داخلية أو خارجية قضاياهم بما فيهم نقابة الصحفيين التي وعدت منسوبيها قبل فترة بتقديم مساعدات، ولكنها لم تر النور بعد. كما أن كل المؤسسات الصحفية أغلقت أبوابها وتركت منسوبيها يعانون بشكل مأساوي. نتمنى من الله أن تتبدل هذه الأحوال السيئة وينعدل وضع الصحفيين).

تحت وابل الرصاص وقذائف الدانات خرج الصحفي الشاب عمار حسن الملقب بـ (الريشة) من منزله منحنياً بصحبة أسرته يتحسس طريق الأمان قبل أن يستقر بهم الحال في منطقة الفتح أقصى شمال غرب مدينة أم درمان. وبعد أن اطمأن الصحفي النشط على أسرته خف عائدًا إلى منطقة الثورات ليحرس منزلهم، ويمارس نشاطه المهني وسط معاناة وخطراً حادق. ويقول عمار الريشة (من الناحية المادية أنا اعتبر نفسي من الصحفيين المحظوظين والحمد لله. لأن اوضاعي المالية جيدة ولم تتأثر باندلاع الحرب مثل بقية الزملاء. وضعي المادي جيد بالرغم من أن أخواني الذين كانوا يساعدوني في المصاريف الأسرية، وأوقفت الحرب أعمالهم وأصبحت أنا العائل الوحيد لجميع أفراد الأسرة (وشايل التقيلة) كما يقولون.

ويواصل الريشة حديثه (مشكلتي أنا، ليس المال الذي يعاني منه غالبية الزملاء، وإنما هناك مشاكل أخرى تعترض طريق عملي الصحفي، أولها سوء خدمات الاتصال والانترنت، الذي يعيق التواصل مع المصادر، كما توجد مشكلة الإمداد الكهربائي الذي يقطع لفترات زمنية طويلة تؤثر على الأجهزة. والمشكلة الأكثر تعقيداً هو الوضع الأمني المنفلت. أنا حالياً موجود في منطقة نزاع مسلح، الثورة شارع الوادي، وهي مسرح اشتباكات مستمرة. الوضع الأمني سيئ جداً، انتشار عسكري كثيف يعترض عملية التصوير، واستطلاع رأي المواطنين. كما نجد صعوبة كبيرة في الوصول إلى الأسواق ومراكز الإيواء، لأنه تحت أي لحظة يمكن تتعرض للنهب من قبل مسلحين خاصة وأن تلك المناطق الملتهبة شهدت حوادث اعتداء ونهب كثيرة ومتكررة.

أما الأستاذة رحاب عبد الله الصحفية المتخصصة في الاقتصاد والشؤون المالية، فقد تركت الحرب في داخلها جرحاً ينزف بعدما فقدت زميلتها ورفيقة رحلتها المهنية عائدة قسيس. وقبل أن تضمد جراحها، لاحقتها أصوات المدفعية وانفجارات القذائف حتى تصدع منزلها الكائن بالكلاكلة جنوب الخرطوم. واضطرت أن تغادر مجبرة مع والدتها المريضة إلى وطنها الأصل مدينة شندي شمال العاصمة الخرطوم التي وصلت إليها بعد رحلة مرهقة محفوفة المخاطر. وهناك في وطنها الأم لم تتلق إغاثة بل ظلت تكافح لسد فاتورة علاج والدتها من ناحية وتوفيراحتياجات المعيشة بالإضافة لقيمة الإيجار المرهق جدًا، حيث تكلف الغرفة الواحدة 350 جنيهًا تدفعها من عائد مهنتها الصحافة التي تواجها عقبات كثيرة منها ضعف الاتصال بالمصادر وانقطاع شبكة الانترنت.

ولم يكن الصحفي الإقتصادي المتخصص أحمد خليل أفضل حالًا من زميلته رحاب عبدالله، رغم أنه كر عائدًا إلى أحضان العائلة، وسكن في بيت الأسرة الكبير بحي الدباغة وسط مدينة ود مدني التي تقع جنوب العاصمة الخرطوم على نحو 180 كيلومتر. وفي مدينته التي شب وترعرع فيها، لم يحس الصحفي خليل بالغربة أو يعتريه الشعور بالنزوح، ولكن ثمة قيود أمنية تقف حجر عثرة أمام عمله الذي يحتاج لحرية التنقل والبحث. وهذا ما كشفه أمام والي ولاية الجزيرة في المؤتمر الصحفي الذي عقده هذا الشهر، وطلب منه فك هذه القيود حتى يقوم بعمله الصحفي ومهنته التي يعتمد على عائدها في الصرف على أسرته وتغطية احتياجته المعيشية.

الحرب التي صوبت أسلحتها نحو صدر الإعلام لم تكتف بقتل 7 من منسوبي مهنة المتاعب فحسب، بل اغلقت أبواب المؤسسات الإعلامية ومزقت أوصال الصحفيين قبل أن تفرق أقلاهم بين الولايات وتتركهم في قارعة الظروف يعيشون الكفاف ولكن بعزة نفس.

معرض الصور