02/10/2023

السودان في رسائل ومدونات SNR: يناير 1918 - يناير 2018

د. أحمد صادق أحمد*

منذ صدور العدد الأول لدورية (السودان في رسائل و مدونات)، كما اقترح الراحل عبدالله الطيب لـ Sudan Notes and Records، أو مثلما يشار اليها في متون البحث SNR، كان من الممكن أن تحتفل بالعيد المئوي لولا توقفها عن الصدور في 2005.

صدر العدد الاول من المجلد الأول في يناير 1918 وقد تصدرته كلمة السير ريقنالد ونجت أو ونجت باشا كما عرف في الأدبيات لاحقاً- حاكم عام السودان (1900-1916)، والذي بدأ تصديره (... كانت سعادتي غامرة بصدور هذه الدورية العلمية المحكّمة ولتنوع موضوعاتها خاصة وأن السودان (ارض خصبة) متخمة بأساطير وحكايات بالذات لدي المجموعات الاثنية غير العربية وغير المسلمة نسبة لأهميتها الأنثروبولوجية وذلك ... لمزيد من الفهم لهذه الشعوب ومعرفة مجموعة القيم والأخلاق السائدة وهذه بدورها مهمة جدا بالنسبة لمن يدير شؤون تلك الشعوب).

واظبت هيئة التحرير علي اصدار العدد تلو الاَخر وحققت نجاحاً منقطع النظير، ولأكثر من ثمانية عقود، وسط الدوائر العلمية في أطراف العالم خاصة ولأنها ولأسباب تاريخية وموضوعية قد اعتمدت اللغة الانجليزية والتي ظلت دائرة التواصل بها تتسع حتي يومنا هذا.

أفتتح المشهد بخمس مقالات حققت الحلم الكولونيالي الذي أشار اليه مهندس الكولونيالية البريطانية ونجت باشا من تحقّق السياسة التي تحقّق رغائبه الكولونيالية بزيادة معرفتهم بالشعوب التي اَلت للامبراطورية.

الدراسة الأولي حول تاريخ السودان القديم كتبها رايزنر، الذي شاعت كشوفاته الاّثارية وكتبه حول العصور الحجرية في السودان ولم يتوقف عن نبش تاريخ السودان وله في هذا المنبر، لاحقاً، عدداً من الدراسات. أعقب ذلك كتابة لـ سي أتش ستيقاند عن حاستي البصر والشم عند عند الحيوانات. ثم دراسة باكرة موجزة عن الساقية في دنقلا كتبها نيكولس.

أما الدراسة المهمة في ظننا في سياق تدشين المجلة، فقد وقعها المستعرب هيليلسون الدي طالما أولي اهتماماً خاصاً لعربية أهل السودان بكل لهجاتها وصيغها الهجين وأختلاطها باللغات المحلية لدرجة تمظهرت بها في الالفاظ والتراكيب والأصوات العربية مختلطة مع اللغات السودانية. اهتم في أول مقال له ينشر هنا، وهو الذي حظي بنصيب الأسد في الكتابة في ذات الأفق والتي أولت عناية خاصة للّسان السوداني العربي المبين - عن عربية أهل السودان التي اتسعت بكل هذياناتها - لعناصر من اللغات المحلية - القبلية كما جاء في الأثر الكولونيالي. وتجدر الاشارة هنا الي انه ورد في البيبلوقرافيا التي اعدها الراحل النصري (1982) عن السودان في رسائل ومدونات، أن هليلسون هذا أخذ نصيب الأسد بعدد الدراسات التي كتبها والتي تمحورت كلها حول اللسان السوداني وما أفصح عنه من ذات وهوية وذاكرة و تاريخ.

ما أجمله ذلك الكولونيالي - اليهودي - البديع في اولي دراساته هنا حينما كتب عن ما أسماه الأغاني الشعبية وتحديداً ما يتنغني به الأطفال والصبية:

يا طالع الشجرة
جيب لي معاك بقرة
تحلب تعشيني

وكذلك
ويا المرفعين تعال أُكل كريت

الي اّخر مما تغني به الأطفال و الصبية.

يبدو اهتمامه واضحاً بالتراث الذي حملته عربية أهل السودان وهناً علي وهن حينٌ من الدهر، كيف لا وهو أوّل من نبّه لكتاب الطبقات للفقير محمد النور ود ضيف الله. وأكثر من ذلك هو الذي لفت نظر الشيخ الجليل بابكر بدري لقوة الأمثال السودانية و ضرورة جمعها وتحقيقها ونشرها وقد أورد الكثير منها في كتابيه المنشوران 1922 و1927. (نصوص عربية سودانية) و(مفردات عربية السودان). و قد تزامن صدور الأول مع كتاب الشيخ عبدالله عبدالرحمن الضرير (العربية في السودان). أضف الي ذلك ما أورده في كتبه من حكايات وحكم وأمثال الشيخ فرح ود تكتوك سوار المشبوك. فقد كان له قصب السبق في سردية الشيخ فرح وتراثه. الحديث يطول ويتشعّب بل ويتعقد عن حضور هليلسون وتنوع وتعدّد كتاباته في هذا المنبر.

المقال الأخير كتبه أحد رموز الكتابة الكولونالية ألا وهو السير هارولد ماكمايكل حول بعض ملامح الثقافة النوبية في دارفور. و تجدر الاشارة هنا الي أن مشروعه عن (عرب السودان) قد بدأ في هذا المنبر وانتهي بمؤلفه المعروف بنفس العنوان والذي صدرت طبعته الأولي في مجلدين عام 1922 والذي ترجم لاحقا للغة العربية. بعد بضعة اشارات مثيرة لأصل الكنوز واختلاطهم مع النوبة جنوبي أسوان، وهجرة بني ربيعة وزعمه لتركهم لغتهم العربية واندغامهم في اللغة والثقافة النوبيتين، زعم بانتهاء مملكة دنقلا وبداية سيطرة جهينة - مجموعة اعراب قحطانيون من جهة الحجاز - وانتهي الي عرض مفصّل للوضع في شمال وجنوب دارفور ومن بعد ذلك كيف تسربت بضعة عناصر من لغة وثقافة النوبين واستوطنت فيه بحكم طول مدة التواصل فيما بين المجموعات المختلفة في دارفورية ومال كل ذلك وتمظهره في العناصر النوبية من عادات وتقاليد وألفاظ وتراكيب وسط المجموعات الاثنية المختلفة في دار فور.

جاءت كلمة هيئة التحريرفي الصفحات الأخيرة: بعد الاشادة بالسيد ونجت باشا لدعمه وتشجيعه لمشروع المجلة وكتابته للتصدير المشار اليه. أشاروا لصعوبات واجهتهم في طباعتها في بريطانيا نسبة لظروف ما بعد الحرب العالمية الاولي الا أنهم استطاعوا طباعتها في القاهرة بمساعدة كريمة من البعثة الفرنسية. علي أن أهم ما جاء في كلمتهم توضيحهم بلغة صارمة لمستقبل المجلة ومن سيكتب فيها؟ ومن سيستكتب؟ وذلك وفقاً للسياسات التي اختطوها لها من ضرورة الاهتمام بالتراث السوداني بكل جوانبه من تاريخية واَثارية وفلكلور ونظم حكم و ادارة.

قبل الختام، شمل العدد عرضاً وافياً لمعظم ما جاء في دوريات عالمية من بحوث ودراسات تمحورت كلها حول السودان. اَخر عرض كان بحثاً علمياً حول أنواع الفراشات في جبال النوبة.

في الختام شمل العدد عددا من الرسائل: اولها من مديرية النيل الأزرق وهي من أطرف الوثائق التي زعم أنها وجدت في جيب محمد أحمد الصادق أحد أعوان ود حبوبة والذي أتهم بقتل المستر مونكريف. ولا أدري ما السبب الذي وردت به هذه الوثيقة، هذا ان أعتبرت هذه (البخرة) وثيقة. رسالة ثانية من مديرية الخرطوم هذه المرة حول عناصر للتراث المسيحي في بعض المناطق الحضرية علي الرغم من انتهاء المسيحية نهائيا قبل أكثر من أربعة عقود ذاك الوقت، كما زعم الكاتب، حينما انتهت مملكتي سوبا وعلوة.

لم يخل العدد من بضعة اعلانات من جيلاتي أخوان والبنك المصري البريطاني وبنك مصر. سعر العدد ثلاثة قروش والاشتراك السنوي خمسون قرشا.

طالما أن هذا النص (المجلة) أنتج في سياق كولونيالي، بالضرورة أن تصير المجلة ومحتوياتها ارثا وتراثا كولونياليا، بالطبع حتي لحظة الفكاك من ربقة المستعمر. و هذه رؤية نقدية من حيث المبدأ وبقراءة سياقية الا أن مراجعة الدورية وما احتوته، نجدها حملت تراثا سودانيا خالصا (قوميا؟) ستظل أجيال وأجيال تحيل اليه علي أنه منجزا حول هذا السياق الجيوبوليتيكي بالغ التعقيد. بالطبع بعد تقشيره من أوضار سلطة الاستعمار أو باثولوجيا الخطاب الكولونيالي ـ colonial discourse pathologies - كما يقول الراحل ادوارد سعيد، وهذا لا يعني مطلقا أن المجلة / الدورية قد اعتورها تشوها كولونياليا أو قل لحق بها. وهكذا فان أجزاء كثيرة منها لم تكن سوي حشوا لا علاقة له بالعلم أو المعرفة الانسانية بل ولا السودان ولا أهل السودان.

بذات القدر، تجد مقالات عديدة قد زينت جبين ذكاء تلك المجلة لا تنسي. تجدر الاشارة المهمة هنا الي ما أنجزه الهاشمي من ترجمة لعدد مقدر منها. له التحية و التجلة و الاحترام.

لا يمكن أن نتجاوز لحظات معرفية مهمة خلال أكثر من ثمانين عاما طلعت ونزلت فيها هذه الدورية. مثلا ما كتبه كيرك (1944) عن الأورطة السودانية في المكسيك. فقد كانت احدي الكتابات البكرة التي أعقبت ما كتبه الأمير عمر طوسون (1933) أو قل لم يسبقها غيره. و تجد كتابات ابراهيم بدري وأكثر من تردد اسمه هو المستعرب هليلسون الذي أشرنا اليه انفا. من أروع ما قرأت كان بحثا رائدا في أحد أعداد 1967 للمرحوم الأستاذ نصر الحاج علي، أحد أعمدة التعليم في السودان و الذي صار أول مدير لجامعة الخرطوم، عن مذكرات الشيخ بابكر بدري الموسوم بـ تاريخ حياتي. كتابة ممتعة و رائدة أيضا.

من بعد ذلك، لا يمكن للقاريء العادي أو الباحث الا و يتوقف عند المرحوم عبد الله الطيب وسلسلة مقالاته حول تراث النيليين والتي أستلت لاحقا وترجمها الأستاذ عجيل الي العربية وصدرت في كتاب.

تواتر علي الكتابة الراتبة فيها عدد من السودانييين بداية بابراهيم بدري ومرورا بعبدالله الطيب ونصر الحاج علي وحتي صلاح المازري علي سبيل المثال وليس الحصر. ولسنوات أعقبت الأستقلال، كانت تصدر عن قصر الحاكم العام وكذلك الجمعية الفلسفية وانتهت بصدورها عن معهد الدراسات الاسيوية والأفريقية - جامعة الخرطوم.

ما تزال مواد الدورية (خام) تنتظر مزيدا من البحث والمقاربة وربما تحرير واعادة طباعتها واصدارها في حلة جديدة، مثلما حدث من قبل وما تزال بعض أعداد متفرقة يمكن الحصول عليها في مركز بيع الكتب في معهد الدراسات الاسيوية والأفريقية. أما المجموعة الكاملة (الطبعات الأولي منها - الأصلية - وأعادة الطبع) فهي متوفرة في هولندا عند دار النشر العريقة بريل - هولندا. علي أن ما هو أهم من كل ذلك رقمنتها حتي تبذل للباحثين في المواقع الالكترونية وذلك لان تلك الطبعات الورقية التي أشير اليها باهظة الثمن لربما حتي للمؤسسات دع عنك الأفراد.

*أكاديمي و كاتب سوداني (المملكة العربية السعودية)

معرض الصور