05/10/2023

الدعم السريع.. الزائر الكوني

حاتم الياس

واحد من أهم الأدباء السودانيين جمال عبدالملك (بن خلدون) صاحب سيرة بازخة، وإرث قصصي بديع.

جمال عبدالملك (بن خلدون) الشيوعي القبطي المصري الذي هرب الى السودان أبان عهد عبدالناصر واصبح مواطناً سودانياً وكتب سيرته الذاتية قبل وفاته، طبعتها له دار عزة. وكان الشاعر حاتم الكناني قد كتب عنها، وقدم لها عرض في أحدى الصحفات الأدبية.

كان اول سوداني كتب في قصص الخيال العلمي، ولديه قصة مشهورة أسمها (الزائر الكوني). وفي سيرته الذاتية الجميلة والتي لايمكن ان تتخلى عن قراءتها الممتعة من اول صفحة حتى أخر صفحة، كتب عن أهتمامه بهذا الضرب النادر في منتوج الإبداع السردي العربي وبالطبع السوداني.

جاءت سيرة جمال عبدالملك (بن خلدون )، وأنا اتفحص الحالة الشعارية المذعورة لافندية المدينة (يسارها ويمينها) بفعل هذه الحرب، ومحاولتهم لفهم مستقبل قوات الدعم السريع وكذلك مصيرها ومصير جنودها من النيحريين التشاديين وربما المارتينيين. حالة تتراوح بين الحماس، والتعبئة الشعارية، او حتى تلك الكتابات التى حبرها رجال صدقوا ما عاهدو عليه الهامش مثل الدكتور محمد جلال هاشم الذي أنْبًهم عليه الدرب في ترتيب رؤية منهجية حتى لو من منهج (التحليل الثقافي) ورؤية الهامش والمركز المؤسسة على نقد هيمنة الثقافة العربوإسلامية. ففأجته الوقائع بأن الثقافة العربوإسلاموية نفسها لديها هامش عربي اسلاموي بدوي يمكن أن يهاجم المركز. بمعنى أن التناقض الذي طالما اسس لرؤيته وسكب الحبر بين الهامش والمركز يمكن أن يحدث داخل البنية الإجتماعية للثقافة العربوأسلاموية نفسها. لذا هو يفضل حالة الدولة والجيش ليس حباً في الدولة والجيش لكن لأنها حالة يمكن أن تقع ضمن منطق وآليات التفاوض التاريخي الممكن مع سلطة العربواسلامويين الرسمية لا مع هامشها الشرس. ذلك المركز التاريخي الذي يستوعب الصراع بناء على رؤيته للحرب والصراع السياسى. لكن (الدعّامة ديل ناس غُبش صعب مساومتهم. فعروبتهم ما حقت مدارس) واستلافات مدينة ولكنها عروبة ملتصقة بأدوات تعبيرها الثقافي والأقتصادي والبيئي. لذلك بعد أن يهزم (جيش البراء) وتشكيلات المستنفرين والمستنفرات بين عطبرة وبربر وأبوحمد والعبيدية والشجرة ووادي سيدنا، سيكون سؤال اين تذهب هذه القوات أو المتبقى منها، بعد أن يُدْحَروا ويولوا الأدبار هرباً بإتجاه دارفور (قيزانها) وقراها ووديانها مثخنين بجراح الطيران وكتائب العز الإسلامية حسب خطاب التعبئة الرائج.

لكن يبدو لي أن هنالك فكرة أخرى يمكن أن نستعيرها من خيال جمال عبدالملك (بن خلدون) وهي أن نستأجر مركبة فضائية ضخمة، ونطلب من جميع افراد الدعم السريع الصعود اليها ثم ننقلهم الى مجرة أخرى، يمكن ان نسميها مجرة (درب السلامة).

يبقى ان اي مشروع لتجاوز الراهن، وتأسيس دولة محترمة في المستقبل يجب ان نتجاوز فكرة أن الدعم (جابوا البشير وجابو الكيزان) البسيطة. فعبدالله علي إبراهيم في كتابه عن المهم عن دارفور واسباب ظهور ظاهرة (الجنجويد) قال أن علاقات أقتصاد الحاكورة قد أجبرتهم على حمل السلاح. والحاكورة ليست مجرد ملكية قبلية تشغلها الزراعة والمزارعين وأنما علاقات أقتصادية منظمة وتاريخية بين الرعاة وبين المزارعين، حينما تحولت الزراعة من حالتها الإكتفائية، ووثقت وارتبطت بالسوق. اضافة للعامر البيئي المؤثر وهو الجفاف الذي ضرب دارفور، زادت الحوجة للتوسع لمقابلة توسع العرض والطلب. فأدى ذلك لدخول الزراعة في المسارات التاريخية التي نظمت العلاقة بين المزارعين والرحّل منذ ازمان بعيدة. فكان لابد أن يحدث الأحتكاك.

ورغم ان عبدالله علي إبراهيم بذل جهد معرفي عظيم، وهو يوجّه في كتابه الحزب الشيوعي بأن يكثّف حضوره المعرفي والماركسي بدلاً من أن يصبح مستهلك للشعارات فيما يتعلق بحروب دارفور. وأن جوهر الصراع هناك لا أن يميل للادانة المسبقة.

قال د. عبدالله وقتها أن الجنجويد كانوا ثورة لكنها وجهت نحو الأتجاه الخاطئ. لكن بروف عبدالله وسط هذه الحرب المربكة عاد هو نفسه لما حذر منه الحزب الشيوعي ليسقط في عادات الٱستهلاك الشعاري اليومي حول هذا الحرب. وبينما نحن ننتظره في ضفة قيادة السؤال الى مظان المعارف والتفكير، أكتفى بأن اصبحت الدولة الحديثة هي المتكأ الذي يعلن إنحيازه له.

والغريب أن بروف ع ع إبراهيم يصنف نفسه ضمن مدرسة نقد مابعد الٱستعمار! اي أن هذه الحرب التي تشهدها بلادنا الأن هي بنت الخلل والتشوه التاريخي المستمر الذي قامت عليه الدولة الحديثة حين ولدت على يد القابلة الإستعمارية.

ترى هل يمكن أن نتخلى عن البساطة بأن حل (الدعم السريع) كافي وحده لأن يرتاح مستقبلنا، وتنام الدولة على (عنقريب هبابه)؟ من الاستحالة والصعوبة بمكان ان يكون حل الدعم السريع هو الحل إلا أن اردنا وبسذاجة أن نعتقد أن بمجرد توقف هذه الحرب يمكن أن نستمر في ادارة دولتنا، والاستمرار بنفس الإجراءات السياسية وطرق التفكير القديمة. اعتقد ان كل ذلك انتهى وسيظل الدعم السريع موجود. ليس كحالة مليشيا مسلحة ولكن كسياق وحقيقة عبر عنها إجتماعياً ولايمكن أن تلغى.

معرض الصور