09/10/2023

كسلا.. في نعيم الجمال

حاتم الكناني

أتاح لي نزوحي من حرب أبريل، الاستئناس بالمدن التي نزحت إليها، في فرصة لم تتحها لي حروب الخرطوم اليومية الصغيرة من أجل المعاش قبل حربها الكبرى التي أيقظت غفلة سكان الخرطوم عن اتساع رقعة البلاد، وتنوعها الطبيعي والثقافي والاجتماعي، فخيارات الحياة في بلد كالسودان، في الظروف الطبيعية واسعة بقدر اتساع رقعته الجغرافية.

أتساءل: ما الذي كان يحجبني عن الإقامة في مدن أخرى غير الخرطوم؟ سيجيب خاطر في نفسي: ظلت الخرطوم أسطورة جميلة لكنها كاذبة في الوقت ذاته. إنها كالمرأة المخاتلة التي تجذبك إلى سرابها، وأنت خلف أوهامك الجميلة تمضي حتى تستفيق حين قررت تدمير ذاتها من فرط ما عشقها أصحاب الأوهام، فجعلوا جسدها ساحة للحرب والنهب والاغتصاب.

كلما وطئت قدمي مدينة، وجدت نفسي أبحث عن الاتجاهات الأربعة. اصطنع الإنسان وهم الاتجاهات في هذا العالم الشاسع لتحييد الامتداد اللا نهائي للعالم، وليستطيع تصوره في عقله الذي انطوى فيه العالم الأكبر.

بانت سلسلة جبال التاكا وتوتيل وأولوس وأويتل، ونحن في مدخل المدينة. ولكم أُرْهِفَ الرسامون في تصوير هذه الجبال حتى انطبعت في مخيلة من لم يزر مدينة كسلا من السودانيين. حددت موقع السلسلة الصغيرة في حدسي في الجنوب الشرقي من المدينة، فكانت بوصلتي في تمام شهر قضيته في حي العامرية الواقع بين حيين هما نواة المدينة: الختمية والميرغنية، في استضافة منزلٍ لأحد أبناء المدينة يعجُّ بالعابرين ممن شدّوا رحالهم عبر المدينة الحدودية إلى بلاد الله الواسعة، ولا يضيق عنهم.

من منزل محمد داؤود الذي أخلاه راحلاً بأسرته الصغيرة، إلى الجزء الشمالي من المدينة، حي الحلنقة، طلباً لاستضافة المسافرين والفارين من حرب الخرطوم، وبرعاية شاملة حنونة من ابن خالته عبد الله آدم الشوالي، تستطيع النظر ما شاء لك النظر، صباحاً إلى الجبال وهي تتبرج بالشروق والغيوم. وفي الليالي القمرية تراها راسمة خط الأفق إلى الأعلى بحوافها، توحي ما توحي من خيال للشاعر والرسام وطالب الجمال لأجل الجمال مطلقاً.

يسبح حي الختمية في بركات الرمال التي تتفتت بفعل تعرية الجبال التي تظلله مع الشروق، وشوارعه جميعها تؤدي إلى ضريح السيد الحسن رضي الله عنه وأرضاه، حيث تتجه إليه قلوب المتبركين والمهمومين وأصحاب الحوائج ومحبي الطريقة الختمية والشيخ أبو جلابية، تلتمس الدعاء والاستجابة والبركة والنفع العميم.

بعد صلاة العشاء، وبعد كل صلاة، يرتفع الدعاء إلى رب العزة بإيقاف الحرب، ويبدأ الخلفاء في تلاوة الراتب، فلا تنقضي تلك الساعة إلا وهم في دوح الذكر والصلاة على حبيب الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

وفقني الله لزيارة الضريح المبارك عدة مرات. لأول مرة، اعتراني إحساس الرهبة عند الدخول والطمأنينة عند الخروج. والناس هنا بالقرب منه في غاية من الراحة والبراح. والأرواح حينها تتحضر لميلاد سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

يقول العارفون ببواطن المدينة وتاريخها إن قوز رجب بالقرب من جبال كسلا، كان ملتقى طرق للقوافل التجارية. وهو أول ملتقى بشري مرصود بدأت منه المدينة حياتها، بحسب ما يذكر الباحث د. أسامة خليل، مجيباً عن استفساري حول تاريخ بناء المسجد، الذي يُرجَّح بناؤه في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

ويضيف أن المسجد كان مأوى سكان المنطقة في الغارات خلال الحرب الإيطالية الإثيوبية 1895، وخلال حملات المهدية التي قادها عثمان دقنة في شرق السودان.

ليس بين المسجد والضريح بجانبه وبين السماء حجاب، إذ لم يُسقف المسجد بالأصل لحكمة ظل يستبطنها أهل حي الختمية ولا يبوحون بها، أو أن سقفه، بحسب روايات أخرى غامضة أيضاً. قُصِفَ خلال الحروب التي مرت بالمنطقة، إلى جانب أن القبة نفسها اتخذت شكل جبل التاكا الذي يقع خلفها تماماً، وقمتها مفتوحة كأنها تُطلُّ على السماء ولا فاصل يحجب الدعوات التي تنطلق من باطن الضريح متوسلة بصاحبه للقبول والاستجابة.

ضخامة المسجد وبناؤه بالطوب الأحمر مع خلطة صلبة من الرمال والجير، كما بانت لي، وانتصاب أعمدته؛ أضفت هيبة للزائرين والسائحين بمعالم المدينة. وعلى الشمال الشرقي من المدينة، يقف جبل مكرام وحيّه إلى جانبه وكأنه ند لسلسلة التاكا وتوتيل.

رائحة المدينة تعبق بالفاكهة، وسوقها ضخم ومزدحم بالبضائع والناس، وفي تلابيبه أسواق مختلف ألوانها وبضائعها، والقهوة في كل مكان منها سائغة، والحياة رخية، لم تنغصها بعد آفات مدن النزوح الكبرى كمدني وعطبرة وبورتسودان. يطرق النازحون في كسلا أبواب الرزق فتنفتح، ويطلبون الأمان فيجدون.

في الجانب الغربي من نهر القاش الموسمي طابع مختلف، تنبسط البساتين وبالقرب منها يقطن الناس. ومن السواقي الجنوبية، على ضفة القاش، تستمد المدينة الأوكسجين من الخضرة الكثيفة، والغذاء من أشجار المانجو والبرتقال والخضروات وما شاء الله من نبات أو ثمر.

الآن بانت لي العوالم التي تسكن مبدعي مدينة كسلا، وهي المدينة التي احتضنت من قبل شاعرها محمد عثمان كجراي وجماعة أولوس الأدبية. وتلهم قصائد أنس مصطفى ولوحات معتز الإمام وسرديات أحمد المبارك آدم ومنجد المصطفى. فالمتح من الجمال ليس عصياً على سكانها.

شهر من الرفقة الحلوة قضيته بمنزل محمد داؤود، حيث كان يجمع مختلف المشارب، من القاطنين والعابرين، ممن جمعتهم سوح العمل العام. في الليالي يعود كل منهم من وطره وسط المدينة ثم تنفجر الحوارات، والمشاهد، والذكريات، والآمال، الأغاني، والشِّعر من حيث هو حياة مأمولة، وأطياف الحبيبات، والليالي الطويلة الطويلة التي يعمرها الشاعر محمد محمود الشيخ.. ود الريف، آفرو، ود الأمير، مناف، فالول ومحمد سليمان الذي يقطن قريباً في الختمية. يبحثون عن الحقيقة في أبهم ليالٍ يمر بها البلد بأسره، يقرأون الواقع والمستقبل، ويصفحون عن الماضي. عابرون عابرون وكأنهم يشهدون آخر ليلة قبل نهاية العالم، وحينما يصبحون فكأنه يوم الخليقة الأول.

يقول رفيقي في السكون والنزوح معاً، القاص وابن أمدرمان واليساري اللطيف عمر دفع الله، ونحن نتجول في سوق كسلا الوريفة، وهي بالفعل كذلك، وقد أغرقت قهوة كسلا وشمسها عقولنا بهذياناتها. يقول عمر: لقد وُلدنا من جديد، بعد اندلاع الحرب، وها نحن نتعلم الحياة بشكل آخر.

أقول لعبد الله الشوالي: نعيش رواية طويلة تصلح للتناول السينمائي، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب، وما زالت مستمرة. لم تترك الحرب للخيال فسحة، فمضت في وحشيتها وكأنها تريد أن تكون نموذجاً للجحيم. فهل ينضج أوان الكتابة عنها؟

معرض الصور