حرب السودان: ما وراء سرية مفاوضات جدة وما بعدها
مريم أبّشر
بسرية تتخللها بعض التسريبات، تمضى جولة مفاوضات جدة الثالثة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، بعد توقف دام أكثر من ثلاثة أشهر، شهدت خلالها عدة مدن سودانية اشتباكات عنيفة بين الطرفين، أزهقت فيها آلاف الأرواح من المدنيين، وجرح نزوح وشرد أكثر ثلثي سكان العاصمة الخرطوم.
استبق استئناف الجولة نشاط سياسي وديبلوماسي إقليمى ودولي للضغط على الطرفين للعودة إلى المفاوضات بعد أن فشل أيا منها في تحقيق نصر عسكري. وشهدت فترة التوقف عقد اجتماعات لمنظمة (ايقاد) واجتماع آخر لمجموعة من دول الجوار السوداني أكدت في المجمل التفاوض عبر منبر جدة.
كما شكل نشاط القوى السياسية الوطنية، بكافة تصنيفاتها داخل السودان وخارجه، مسعى للتوصل إلى وقف الحرب ووقف الانتهاكات الإنسانية وتكوين (جبهة مدنية عريضة) لمناهضة الحرب بدأت أعمالها بالفعل من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
وانطلاقا من أهداف ثورة ديسمبر 2018، كثفت قوى الثورية الداعمة للتحول المدني الديمقراطي وعودة الجيش إلى مهامه الأساسية، تحركاتها الخارجية لحث المجتمع الإقليمى والدولي للضغوط على الطرفين لإنهاء الصراع.
ووفق التوقعات فإن فرص التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار لفترة طويلة وفتح ممرات آمنة لتوصيل المساعدات الإنسانية للمتضررين يعد السيناريو الأقرب للتحقق خلال هذه الجولة من التفاوض.
بالنسبة للسفير إبراهيم طه أيوب فإن قبول استئناف الحوار جاء بعد تضعضع للقوة العسكرية والروح المعنوية للمتحاربين، وقال إن القوات المسلحة فقدت هيبتها وانسلخ منها قرارها وكادت القيادة فيها تبتعد عن قاعدتها باستسلامها لقيادات حزب المؤتمر الوطني المحلول بثورة ديسمبر.
مضيفا أن القوات المسلحة باتت ترى في منبر جدة خلاصها من التدهور والتشاكس الداخلي، وربما الحلم بالعودة إلى الحكم ولو بالتحالف مرة أخرى، بالإضافة إلى أن المفاوضات ستعفيها من الضغوط التي تمارس عليها من قبل بعض الحلفاء في الخارج.
ويلفت السفير إبراهيم طه أيوب إلى أن قوات الدعم السريع هي الأخرى طالها التعب المهلك ونضوب أسلحتها، خاصة الحديثة منها، فضلا عن الحصار المفروض على تهريب الأسلحة الجديدة عبر المنافذ المكشوفة للقوات المسلحة، مثل معبر ليبيا أو منافذ تشاد وأفريقيا الوسطى.
وتابع أيوب: بالإشارة إلى أنه من ضمن العوامل المهمة التى تجبر قوات الدعم السريع على القبول بالتفاوض، بل الترحيب بمفاوضات جدة، هو رفض جماهير الشعب السوداني لها ومعاداتها منذ وقت مبكر والمطالبة بحلها، إضافة إلى أن الزمن لا يبدو أنه من صالحها، وأن أي تمدد لها في الأراضي التي استولت عليها سيشتت، لا محال، جهودها في الحفاظ على المناطق الجديدة.
وأضاف: في المقابل ترى بعض قيادات الدعم السريع أن حصر مهمة اتخاذ القرارات المهمة، العسكرية منها والسياسية والمالية، في يد (آل دقلو) فيه استخفاف بهم، وأنهم قد يطالبون حتى قبل العمليات الحربية بحقهم المشروع في المشاركة في عمليات اتخاذ القرار.
ويشير أيوب إلى أن الفئة الثالثة في الحرب تتمثل في بقايا نظام الإنقاذ البائد، وهؤلاء غير معنيين بما يدور بجدة؛ لأن حلفاءهم في الجيش شدوا الرحال إلى التفاوض برغم معارضتهم لايقاف الحرب، ونبه إلى أن الانقلابيين القدامى موقنون، وهم محقون في ذلك، ألا عودة لهم للسلطة إذا سكتت البنادق وجاء السلام الذى لايريدونه، وأن أملهم في البقاء أحياء فوق الأرض يكمن في فشل مفاوضات جدة، وألا تعرف البلاد أي إيقاف لإطلاق النار.
ويرى أيوب أن مخرجات منبر جدة ستعتمد، بالإضافة للضغط الشعبي الرافض للحرب، إلى إضفاء المزيد من الضغوط الإقليمية والدولية والتنديد بالمزيد من وضع كافة القيادات التي ترفض السلام في القوائم السوداء والمقاطعة، مثلما حدث لعبد الرحيم حمدان دقلو، قائد ثاني قوات الدعم السريع، وعلي أحمد كرتي، القيادي الأول في تنظيم الإخوان المسلمين.
ويرى أيوب في هذا الصدد أنه من الضروري الطلب من بعض الدول الكف عن التدخل في شؤون الداخلية للسودان، وألا يصيب الضجر دول الوساطة، السعودية والولايات المتحدة، جراء تشاكس الفريقين المتحاربين.
انطلاق دورة جديدة من المفاوضات بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة، بعد توقف يقارب الثلاثة أشهر، يعد منعطفا مهما في مجرى الحرب وهي تكمل شهرها السادس، ويرى الخبير الإعلامي، عبد الله رزق، أن هذه الجولة من شأنها أن تدشن بداية العد التتازلي لنهاية الحرب، ويبشر في سياق تدافع منبري أديس أبابا وجدة، في الاتجاه نفسه، اتجاه تحقيق السلام، باحتمال توقف الحرب قبل اكتمال الجبهة المناهضة لها، في مؤتمرها المقرر له نوفمبر المقبل.
ويعتبر رزق استجابة القوات المسلحة للدعوة لاستئناف التفاوض في حد ذاتها حدثا مهما، يمكن أن يسمح مرة أخرى بإمكانية ترقب نهاية وشيكة للحرب. وتابع بقوله: "هي استجابة، وإن تأخرت لشهور عانى فيها المواطنون ماعانوا من ويلات الحرب، فإنها تستحق الإشادة والتقدير كخطوة صحيحة تنحاز لمصالح الوطن والمواطنين.
غير أنها تجسد، من جهة أخرى، انعتاق القرار العسكري من تأثير الإسلاميين الذين أطاحت بهم الثورة فاشعلوا الحرب وورطوا القوات المسلحة فيها، واستماتوا من أجل استمرارها، حتى تراق كل الدماء.
ويضيف رزق بأن الجولة قد تبدو لأول وهلة شاقة، غير أنه يمكن التغلب على صعوباتها بتوفر حسن النوايا لدى الطرفين والتزامهما التزاما صارما ونهائيا بخيار التفاوض ونبذ الحرب والاقتتال والاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة من أجل الوصول إلى ااتفاق لوقف اطلاق النار وانهاء العدائيات.
وتوقع رزق عقد جولة لاحقة تختص بالجانب السياسي والمتعلق بترتيبات استعادة مسار الانتقال الديموقراطي بقيادة مدنية وبمشاركة القوى السياسية والمدنية التي قد تمثلها الجبهة المدنية المناهضة للحرب قيد التأسيس.
ويرى أن خروج قوات الدعم السريع من المناطق السكنية أحد أهم مطلوبات الاتفاق، لكنه الأكثر شعبية لارتباطه بعودة النازحين والمشردين واللاجئين إلى بيوتهم والتطبيع مع الحياة العامة مرة أخرى، غير أن هذا المطلب الأكثر إلحاحا، غير معزول عن مجمل الإجراءات ذات الصلة بدء بوقف إطلاق النار في كل الجبهات ومسارح العمليات، ونشر فريق (أمريكي/ سعودي) غالبا، لمراقبته، بجانب قوات محايدة (من رواندا) الدولة الأكثر خبرة في هذا المجال، مثلا، للفصل بين المتحاربين، فضلا عن تأمين انسحاب قوات طرفي الحرب، كمرحلة أولى، إلى المواقع التي كانت عليها قبل 15 أبريل، في العاصمة والمدن الأخرى التي جرت فيها المعارك والمواجهات، كالأبيض ونيالا والجنينة، وذلك لتسهيل عودة المواطنين إلى مساكنهم، وإعادة تشغيل مرافق الخدمات، وتأمين ممرات آمنة لتوصيل المساعدات الإنسانية للمتضررين بإشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر.