02/11/2023

نساء الخرطوم: رحلة كفاح غير مسلح

علي طاهر

مرض السكر المزمن الذي سرق العافية منها، كان رحيمًا عليها أكثر من عملها اليومي المجهد الذي ترك جسدها نحيلًا. إن رحلة الكفاح التي تقوم بها "حليمة أبكر" طوال ساعات النهار قد توفر لها مبلغًا ماليًا يغطي نفقات أسرتها، ولكنه في نفس الوقت يقطع جزءً من صحتها، ثمنًا باهظة تدفعه مرغمة، خاصة بعد اندلاع الحرب التي فرضت عليها أعباءً إضافية وعملًا جديدًا هو بيع العدّة والأواني المنزلية بدلًا من بيع المأكولات الشعبية بالمنطقة الصناعية المحطمة. إن عملية البحث المضنية عن الأواني في أسواق دقلو ثم بيعها للنساء داخل الأحياء السكنية بشرق النيل، يُكلف هذا العمل الشاق حليمة الأرملة جهد كبير يكاد يغمى عليها عندما تصل منزلها، ولكنها رغم الخطورة على حياتها لم تستسلم. تنهض من نومها باكرًا، تضع حبة من السكر المعالج داخل كوب لبن قبل أن تشربه ثم تتوكل على الله لممارسة عملها اليومي.

ومن بين بيوت الطين المتصدعة، خرجت "آمال" مدثرة بثوب الحزن. لقد أجبرها الفلس على العودة للعمل بعد توقف دام شهرًا كاملاً بسبب مقتل صديقتها وزميلتها الشابة التي مزقت الدانة جسدها، وتركتها أشلاء في مكان عملها بمنطقة سوبا، حيث كانتا تعملان سويًا في بيع الشاي وإعداد القهوة. ورغم نجاة "آمال" من الموت المحقق ورحيل زميلتها، إلا أن الحادث الأليم الذي أثر على نفسيتها كثيرًا لم يقعدها عن العمل فخرجت مجددًا تبحث الرزق بين كبابي الشاي، وتحت فناجين القهوة حتى تستطيع الإنفاق على والديها المقعدين، وتوفير قيمة روشتة العلاج المكلف بجانب الاحتياجات اليومية من أكل وشرب.

أما "عوضية أم التيمان" التي تركت منزلها بشرق النيل عقب اندلاع الحرب منتصف أبريل الماضي، اضطرت للعودة إلى العاصمة مجددًأ، ولكن هذه المرة من أجل التجارة. تأتي من بعيد لتشتري بعض السلع الخفيفة. لبن بودرة، صلصة، أرز، مرقة وصابون بأنواعه المختلفة ثم تقوم ببيعها في القرى المنتشرة غرب منطقة الكاملين التي تبعد حوالي 70 كيلومتر جنوب العاصمة الخرطوم. ولم تجد "ام التيمان" وهي في عقدها الرابع من يقف بجانبها، ويشد من أزرها بعد مرض زوجها المشلول عن الحركة. لقد وجدت نفسها أمام محك حقيقي لا يوجد أحدًا يصرف عليها، ويغطي احتياجات أبنائها الأربعة إلى جانب والدهم، لذلك خرجت للعمل. تسافر على ظهر المشقة والعنت، وتواجه الكثير من الصعاب والمنعطفات في رحلتها اليومية الوعرة. كل ذلك لم يكسر صمودها أو يجبرها على ترك شعارها الذي رفعته من أجل أبنائها.

أما "س" التي رفضت ذكر أسمها وهي عاملة بإحدى المستشفيات الشهيرة وسط الخرطوم فقد أصبحت تاجرة متخصصة في بيع السكر. تذهب يوميًا إلى سوق دقلو 24، تشتري كميات من جوالات السكر مختلفة العبوات، تنقلها عبر المواصلات وتعرضها في شارع البنك بسوق 6 بالحاج يوسف، وتكسب في الجوال الواحد ما بين 5 إلى 7 آلاف جنيه. وهذا الوضع المربح غير مستقر في كل الأحوال، ففي بعض الأحيان ترتفع قيمة الجوال لتصل إلى 40 ألفًا، وهذا السعر من شأنه طرد الزبائن. هذه الأسعار غير مشجعة للشراء فتعود كما ذهبت إلى رفيقاتها في شارع البنك الضيق والذي يضم بداخله أكثر من 1000 امرأة يعملن في التجارة، وبيع جميع أنواع السلع والبضائع، تجوب المكان من الصباح وحتى الساعة 3 ظهرًا.

يؤمن بعض السياسيون أن الكفاح المسلح وسيلة ناجعة لاسترداد الحقوق الضائعة، لكن النساء في الخرطوم يكافحن من دون سلاح، لأن غايتهم ليست سياسية وإنما من أجل توفير لقمة العيش الكريم.

معرض الصور